يختار الكاتب التونسي "كمال الزغباني" بناءً مركّباً لروايته الجديدة، حاشداً فيها عدداً كبيراً من الشخصيات والعلاقات التي تنشأ بينها، موزعاً السرد بين الأحداث الفانتازية، والتأملات الفلسفية، والمواقف الكوميدية، والذكريات التأريخية لبعض الأحداث السياسية في تونس. كل ذلك يتداخل في حبكة متقنة تختفي فيها الحدود بين العناصر السابقة.
تندرج "مكينة السعادة" تحت ما يسمى بالرواية داخل الرواية، فالشخصية التي يبدأ معها السرد هي شخصية كاتب روائي بدأ في التخطيط لكتابة رواية جديدة مستلهمة من حياة صديقه "محمد الغربي" وزوجته وابنتها، ومن لقاء مفاجئ يحدث بين "محمد" وبين أستاذ جامعي ومفكر عاد لتوه من كندا. وإضافة إلى مشروع هذه الرواية فإنه بدأ بكتابة سيناريو تلفزيوني مستلهم من حياته هو، تحت عنوان "مدينة السعادة". هكذا، تمضي الرواية بين هذه المحاور التي تتشابك في ما بينها، لتطالعنا فصول عن حياة هذا الكاتب، وفصول أخرى عن حيوات شخصياته، وفصول ثالثة تحتوي على بعض مشاهد المسلسل الذي يعدّه، وكل ذلك يندمج معاً ليشكّل في النهاية جزءاً من الحبكة العامة للرواية. "كان قد شرع منذ أشهر في التخطيط لرواية جديدة مستلهمة من حياة محمد الغربي مع "شريرته" وابنتها، ومن لقاء مفاجئ يحدث بينه وبين أستاذ جامعي ومفكر معروف عائد لتوه من كندا بعد ثمانية عشر سنة من الغربة (...). لكن بعض لحظات اليأس التي كانت تتملكه من وقت لآخر جعلته يقرر أحياناً التوقف نهائياً عن الكتابة الروائية لييمّم قلمه شطر فن السيناريو، عساه يحقق له بعض ما يرجوه من شهرة وثراء ومعجبات. وشرع في كتابة نص مشهدي مستلهم في جزء كبير منه من حياته الخاصة".
يحشد "الزغباني" عدداً كبيراً من الحكايات في روايته، غائصاً من خلال هذه الحكايات في دواخل شخصياته ودوافعها وتحولاتها وتفاعلها مع ما تعيشه من أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية، وكيف تؤثر هذه الأوضاع على حياتها. ورغم أن الشخصيات التي يختارها الكاتب تبدو متباعدة جداً في مساراتها وطبائعها، فإنه يقاطع بينها ويجمعها في شبكة معقدة ومتداخلة من العلاقات، يكون مركزها المبغى الذي يؤسسه "شعيب الأعرج" تحت اسم "النهد الذهبي"، مستقطباً إليه الفتيات ليصبحن بائعات هوى. وقد أضفت شخصية "شعيب" بدءاً من ذكريات طفولته ومشاريعه الصغيرة، وانتهاء بمشروعه الكبير هذا والحيل والخدع اللانهائية التي يتفنن في ابتكارها لتحقيق مصالحه، أضفت على الرواية جواً من المرح والطرافة والحيوية.
يسلط الكاتب الضوء على بعض الأحداث التاريخية والسياسية في تونس، وبالأخص مرحلة السبعينيات والثمانينيات، أي أثناء حكم "بورقيبة"، ويركّز من خلال ذكريات شخصياته على "ثورة الخبز" التي جرت في عام 1984، بعد أن ضاعفت الحكومة أسعار الخبز وبعض المواد الأساسية الأخرى، فانطلقت التظاهرات في أنحاء البلاد احتجاجاً، كما يتطرق الكاتب إلى تجربة الأحزاب اليسارية في تلك الفترة، وبخاصة في الأوساط الطلابية.
تمتلئ الرواية، التي يقسمها الكاتب إلى أربعة أقسام وعدد كبير من الفصول، بمقاطع فلسفية حول "السعادة": مفهومها، معناها، أبعادها، مطلب السعادة في الحياة الدينية، كيفية تحصيلها وتحقيقها... وغيرها من المواضيع التي تناقش "السعادة" من مختلف جوانبها، غير أن الجانب الذي تبتغيه الرواية مختلفٌ تماماً، ولكنها لا تصل ولا توصلنا إليه، إلا بعد أن تناقش كل ما سبق. وهذا الجانب هو "وهم السعادة"، إذ تطرح الرواية ما مفاده أن الأنظمة الاستبدادية تحاول إقناع الشعوب أنهم يعيشون في سعادة هي الحياة الجيدة والأمان الذي ينعمون به في ظل حكمها، غير أن هذه السعادة ما هي إلا آلية قمع تدجّن بها السلطة فكر الناس وتسلب عبرها حريتهم. تبرز هذه الفكرة من خلال سيناريو المسلسل الذي يكتبه أحد أبطال الرواية، ويدور حول المشروع السكني الموسوم بـ"مدينة السعادة"، وهو مشروع كبير ومتكامل تتولى فيه المؤسسة المنفذة إدارة كل شؤون حياة ساكنيه، بشرط أن يرهنوا لديه، لا فقط رواتبهم وإنما حيواتهم ومصائرهم، حاضراً ومستقبلاً، مقابل أن يضمن لهم السعادة التي بها يحلمون، "وقد ظهر علينا أخيراً باعث عقاري معلناً أنه سيمنح التونسيين كل ما يحلمون به من رفاه بفضل مشروع "مدينة السعادة" الذي يريد توسيعه ليشمل تونس بأكملها فيحولها إلى ما يشبه "أوسيانيا" التي وصفها جورج أورويل في روايته الشهيرة "1984" حيث يستحيل الناس كائنات أقل قيمة من الحيوانات، بل من الآلات التي تشتغل وتعيش تحت أنظار "بيغ براذر"، الزعيم الذي بلا عمر والذي تراقبهم ليلاً نهاراً عينا صوره العملاقة التي تملأ كل الأماكن من حولهم. والأغرب في الأمر كله أن أعداداً كبيرة من التونسيين يتنافسون على الحصول على مكان في مدينة السعادة المزعومة تلك والتي يصح بالأحرى وصفها بالماكينة الجهنمية التي تمنحهم وهم السعادة التي تستبطن في واقع الأمر استعباداً شاملاً وخضوعاً مؤبداً".
كمال الزغباني كاتب تونسي، له مجموعة قصصية بعنوان "الآخر"، وكتاب فكري "أخلاط في البهيموقراطية والثورة"، وروايتان: "في انتظار الحياة" التي حازت جائزة الكومار الذهبي في تونس عام 2002، و"مكينة السعادة".
الناشر: دار التنوير/ بيروت - القاهرة - تونس
عدد الصفحات: 350
الطبعة الأولى: 2016
يمكن شراء الرواية من موقع نيل وفرات، أو من موقع متجر الكتب العربية جملون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...