وأخيراً استيقظت المحكمة الجنائية الدولية من سباتها لتقرّر أن تدمير الآثار بات يُعتبر جريمة حرب. لكن البداية ليست من سوريا أو العراق كما يمكن لأحد أن يتوقع بعد أكثر من نصف عقد على سيطرة داعش على العديد من المعالم الأثرية هناك، والإمعان في شتى أنواع التدمير لهذا الإرث الحضاري.
لقد عُقدت أول محكمة من نوعها للنظر في إقدام أحمد الفقيه المهدي، وهو قيادي في جماعة أنصار الدين، وحليف تنظيم "القاعدة" في المغرب العربي، على تدمير معالم أثرية في مدينة تمبكتو في مالي. من بين ما دمّره تسعة أضرحة تشمل ضريح سيدي محمد من القرن السادس عشر ومسجد سيدي أحمد الرقاد الذي ألف كتابات عن الطب الشعبي قبل 400 سنة، ومسجد سيدي يحيى.
حُكم بالسجن على أحمد تسع سنوات، بعدما أُخذت بالاعتبار الأسباب التخفيفية نتيجة إقدام المتهم على تسليم نفسه. واحتفى المتابعون القانونيون بتوسيع المحكمة دائرة تعريفها لمبدأ الانتهاكات أثناء الحروب، ليشمل إلى جانب الانتهاكات ضد البشر، المسّ بالمواقع الأثرية المصنّفة ضمن التراث العالمي.
لكن هل يكفي ذلك؟
وصفت المحكمة الدولية ما حدث بأنه رسالة إلى العالم مفادها أنه لا يجوز غض النظر عن جرائم من هذا النوع. لكن عند سؤالها عن إمكانية أن ينطبق الأمر نفسه على سوريا والعراق، يأتي الجواب بأن اختصاص المحكمة لا يشمل الجرائم المرتكبة في أراضيهما، لأن كلا البلدين لم ينضما إلى نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة.
يجيب الأستاذ في جامعة هارفارد أليكس وايتينغ عن ذلك باعتبار أن قضية المهدي لا تعني أن المحكمة ستلاحق هذا النوع من الجرائم. برأيه إن "هذه المحكمة لا تملك من النفوذ إلا القليل، ولديها موارد خجولة من أجل تقصّي الحقائق… لقد نجحت المحكمة في قضية واحدة فهل ستأتي الثانية؟ أستبعد ذلك تماماً".
تبدو المحكمة هنا كمن يعتمد على الفرص لا أكثر، فالمهدي هو من سلّم نفسه وهو من اعترف بذنبه. ويمكن اعتبار الاحتفال بوصول قضيته إلى خواتيمها ضرباً من المبالغة بشأن مقدرات المحكمة.
وما يعرقل بالدرجة الأولى عمل المحكمة هو قانونها الذي أُقرّ في العام 2002. وفق هذا القانون، لا يحق لها أن تلاحق الجرائم المرتكبة في دول لم توقع على نظام الإنشاء، إلا في حال تم تحويل الادعاء إليها من قبل مجلس الأمن. وعليه، تقف المحكمة عاجزة أمام جرائم هدم الآثار بالقذائف والجرافات في سوريا والعراق. الاثنان لم يوقعا على المعاهدة، ومجلس الأمن لم ير أهمية لملاحقة هكذا جرائم بعد.
وأخيراً استيقظت المحكمة الجنائية الدولية من سباتها، ويا ليتها لم تفعل...
إن تجاهل المحكمة الجنائية الدولية لانتهاكات إنسانية مرعبة تحصل في سوريا، يجعل من احتفائها برسالة الحفاظ على الآثار ضرباً من الازدواجية
هل في أفريقيا وحدها ترتكب الجرائم؟
في المقلب الآخر، توحي المحكمة بأنها تطور أساليب عملها. لا تنفك توسّع مروحة ما تعتبره جرائم حرب، فهي تزيد من أشكال الانتهاك الذي يمكن توصيفه في الحرب في خانة الجريمة. ولكن من خلال توسيع مروحة الجرائم ضد الإنسانية، يتخوف البعض من أن تحيد المحكمة عن مهمتها الرئيسية وهي ملاحقة الانتهاكات الأشنع التي تمس بحقوق الإنسان.
في كفة أخرى، ينتقد البعض تركيز المحكمة على أفريقيا دون غيرها. ففي السنوات العشر الأولى لعملها أتت جميع المحاكمات بشأن قضايا أفريقية. وهناك من يذهب لاتهامها بأنها سلطة كولونيالية جديدة.
من يعتبر قضية المهدي إنجازاً في عمل المحكمة، مبرّر له ذلك، لكن سوء أداء هذه السلطة الدولية خلال السنوات الماضية يبدو أكبر من أن تغفر له قضية مماثلة. بعيداً عن نظرية "البشر أهم من الحجر" التي سادت مؤخراً، وهي محقة بنسبة كبيرة، يبقى للإرث الحضاري دوره في تثبيت معالم الهوية التي تتعرض لكافة أشكال التدمير. مع ذلك، فإن تجاهل المحكمة الدولية لانتهاكات إنسانية مرعبة تحصل في الحرب، يجعل من احتفائها برسالة الحفاظ على الآثار ضرباً من الازدواجية.
كيف ذلك؟
قبل أيام، توفي شمعون بيريز وبين يديه الكثير من المجازر والدماء، التي لم تكن المحكمة قد سمعت بها. كل ما وصلها أنه حاز على نوبل للسلام. قبل بيريز وبعده كثر ممن غرقت أيديهم بالدماء، وليس الدماء فحسب، بل التشوهات الخلقية والنفسية التي عاشتها أجيال كثيرة نتيجة الأسلحة الكيميائية المستخدمة والتعذيب المستمر. رؤساء، قادة ميليشيات، زعماء، وغيرهم ممن أنشئت المحكمة لأجل محاكمتهم ماتوا ميتة طبيعية دون زيارتها ومنهم ما زال يعيش آمناً.
بعد حوالي نصف عقد من القتل والتدمير والتهجير وفشل وقف إطلاق النار، يمكن القول إن القانون الدولي فشل في سوريا. والمشكلة هي في صعوبة الحسم بهوية من يتحمل مسؤولية هذا الفشل. على سبيل المثال، وبحسب القانون الداخلي للمحكمة، يمكن محاسبة عناصر داعش الآتين من دول كانت قد وقعت على اتفاقية روما وهي المملكة المتحدة وتونس والأردن وجورجيا. لكن المشكلة وفق ما صرحت المحكمة مراراً هو عدم إمكانية اعتبارهم من كبار الجناة وجرهم إلى المحكمة الدولية.
إزاء ذلك، هل ينفع الاعتماد على جهة خاصة؟
بينما تؤكد المحكمة أن لديها فريقاً مختصاً يعمل على توثيق الانتهاكات، التي يمكن أن يُستند إليها لاحقاً إن تغيّرت الظروف، تظهر كذلك مسؤولية مجلس الأمن الذي يبدو متخبطاً في الشأن السوري بما لا يسمح له باتخاذ قرار. وهنا يأتي عمل لجنة العدالة والمساءلة الدولية التي تعمل معها المحكمة من أجل تقصي الحقائق بشأن ارتكاب جرائم حرب في سوريا. ولكن طالما أن الفيتو يحسم الأمور في مجلس الأمن، والسياسة تغلب على ما عداها، لا مساءلة ولا عدالة في الحروب.
أما المعضلة الأخرى، فهي في كون هذه اللجنة جهة خاصة متعاقدة مع المحكمة، علماً أن الأخيرة لا تضمن أمن الفريق العامل على الأرض ولا تحركاته. وعليه، تجد اللجنة نفسها ملزمة بالتعاون مع جهات عسكرية أو سلطات فاعلة في سوريا، وهنا يصبح السؤال: من يضمن آليات حصولها على المعلومات؟ ومن هي الجهات التي تعتمد عليها لضمان أمن فريقها وكيف يؤثر ذلك على مصداقية معلوماتها؟ وهكذا يمكن أن يركز تقرير اللجنة على جرائم الأسد دون غيرها أو العكس.
يأتي ذلك الحديث بينما يجري جمع الأدلة قبل توجيه الاتهامات، وهذا في حدّ ذاته مربك قانونياً في ظل عدم وجود محاكمات على الأرض مباشرة. أما إن تأكدت جريمة شخص أو فصيل، فهل يعدّ ذلك كاف لملاحقته؟ لا تبدو الأمور بهذه السهولة... اسألوا مجلس الأمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 12 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت