البلبلة والتناقض في أخبار "كُثيّر عزة" تثير وتغري إلى أقصى حدود الإثارة والإغراء، فهناك خلاف على تاريخ مولده، ووفاته أيضاً، وهو معروف بشدة مغالاته في حب أهل البيت، ومع ذلك معروف بمدائحه لخلفاء بني أمية، كما أن هناك ثلاث روايات مختلفة عن لقائه الشهير بعزة، وأكثر من ذلك هناك تشكيك بقصة حبه من أصلها، فهل كانت عزّة حبيبته حقاً أم اسماً استعاره في نسيبه؟
عرف الشاعر كُثير، أكثر ما عرف، بقصة حبّه لعزّة، التي كان يكنيها في أشعاره بـ"أم عمرو" أو "الضميرية" أو "ابنة الضمري"، و"الحاجبية". ومع أن ذلك الحب، وتلك القصة يمثلان جانباً واحداً من سيرته، إلا أنه أكثر ما تناقله الناس عنه، وما أوردته كتب الأخبار. وهو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود الشهير بأبي جمعة. عاش في المدينة (وولد فيها ربما في حدود سنة 40 هـ.)، وتوفي عام 72 هـ، أو 82 هـ. يقال إنه عاش في مصر حيث انتقلت عزة بعد زواجها، ويروى أنه زار قبرها "ورثاها، وتغير شعره بعدها". كان يكنّى "أبا صخر"، ويسمّى "كُثَيِّر" بصيغة التصغير "فُعَيّل".
يصف كثير حبيبته عزة في الأبيات التالية بأنها نار وهاجة تكاد تكون نجماً، فكأنها تحرق وتضيء في آن معا:
لعزة نار ما تبوخ كأنها إذا ما رمقْناها من البعدِ كوكبُ
ومن أرق وأعذب أشعاره لعزة قصيدته التي مطلعها:
خليليَّ هذا ربعُ عُزَّةَ فاعقلا قلوصيكُما ثمَّ ابكيا حيثُ حلَّتِ
والقَلُوصُ هي الإبل الفتيّة، وعقلُ الناقة هو ضمُّ رسغها إلى عضدها وربطهما معاً لتظلّ باركة في مكانها. وكأن التراب الذي داسته قدماها، والمكان الذي باتت فيه، لهما قدسيّة خاصّة، فالصلاة فيه تمحو الذنوب:
ومسَّا تراباً كانَ قدْ مسَّ جِلدها وبِيْتا وظلَّا حيثُ باتَتْ وظلَّتِ
ولاتيأسا أن يمْحُوَ الله عنكُما ذُنوباً إذا صلَّيتما حيثُ صلّتِ
قد تبدو قصة حبه لعزة صدى لقصص الحب التي تغنى بها العرب، وأحبوا تناقلها، كأخبار قيس لبنى وجميل بثينة ومجنون ليلى، فلا نعرف على وجه اليقين ما كان منها صادقاً، وما كان بقصد النسيب، أو مستعاراً ومسقطاً من غيرها. وهذا ليس استثناء بل من طبيعة أخبار كتب التراث. واللافت أن صاحب مصنف طبقات فحول الشعراء، "ابن سلام" يقارنه بجميل بثينة، فيقول بأن لكثير "في فنون الشعر ماليس لجميل"، ولكنه يضيف بأن جميلاً كان "صادق الصبابة"، وأما كثير فكان "يَتَقَوَّلْ"، ولم يكن عاشقاً. أشهر أخباره قصة لقائه عزّة في الحجّ، التي سأوردها هنا، وهي مثال رائع عن علاقات الشعر بسيرة الشعراء، أو علاقة الشعر بشروحه النثرية: فقد كانت قصة الحب بين كثيّر وعزّة إطاراً لتفسير عدد من أشعار كثيّر، ومن تفسير هذه الأشعار نسجت أخبار أضيفت بدورها لسيرته ولتصور شخصية عزّة. فكأنها دائرة مستمرة لا نستطيع فصم عرى ترابط أقواسها. ولذا فإن السؤال عما هو واقعي وما هو من نسج الخيال يغدو ممتعاً ومستحيلاً في الوقت نفسه.
لقاء عزّة وكثير قصة واحدة في ثلاث حكايات
أخبار لقاء كثير وعزّة تدّعي لقصتهما وجوداً مادياً خارج أشعاره. بداية، ورد أن لقاءهما الأول كان عند نبعة ماء، حيث أرسلتها جمعة من النساء لتشتري غنماً من كثير، فأحبها، وأعطاها كبشاً وردها إليهنّ دون أن يأخذ مالها. وأما الحكاية التي اشتهرت عن لقائهما فهي قصة واحدة على ثلاثة أشكال: اتفق أن زوج عزة طلب منها ليلة أن تقبس ناراً، وفي نسخة أخرى، أن تطلب سمناً، فلقيها كثير فأخبرته بحاجتها فأخرج أدواة سمن وجعل يسكب في إناء عزة وهما يتحادثان فلم يشعرا حتى غرقت أرجلهما. ولما رجعت أنكر زوجها كثرة السمن، وأقسم عليها فأخبرته، فحلف عليها أن تخرج وتشتم كثيراً بحيث يسمعها، ففعلت ذلك.والقصة الثانية لها الحبكة نفسها: طلب زوج عزّة منها أن تجيء بشيء من الطعام كان ينقصهم، فوصلت وهي تطلب ذلك إلى خيمة كثير، وكان يبري سهاماً، فلما رآها جعل يبري ساعده دون أن يدرك ما هو فاعل. وتقول القصة إن عزّة دخلت عليه ومسحت الدم بثوبها، ولمّا عادت إلى زوجها، جنّ من رؤية الدم، وغضب عندما عرف مصدره، فحلف أن تخرج وتشتم كثيرأ.
كلا القصيدتين تسردان بيتين لكثير، ينعتان زوج عزّة بالخنزير، ويطمئنان عزّة أن شتائمها مقبولة منها، مع أنه يعرف أنه عزّ عليها النطق بها، والبيت الأول:
يكلّفها الخنزير شتمي وما بِها هواني ولكنَّ للمليكِ استزلّتِ
هنيئاً مريئاً غيْرَ داءٍ مخامرٍ لعزّةَ من أعراضنا ما استحلَّتِ
فشتيمتها له، وإساءتها عنده مثلها مثل إحسانها، كما يقول في موضع آخر "أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة." تتشعب القصة وتتغير تفاصيلها، ثمّ ينتقل زمان لقائهما إلى الحج، والمكان الحجاز، والقصة في شكلها هذا اكتسبت الشهرة الأوسع: وهي أن كُثيّراً حجّ ذات مرّة إلى البيت الحرام، وحجت عزّة وزوجها معها، ولم يعلم أحدهما بالآخر، وقد خرجت عزّة من الخيمة تطلب شراء ثمنٍ تصلح به طعاماً، فدارت بين الخيام، خيمة خمية، وإذا هي في خيمة كثير، وتتبع القصة بعد ذلك ذات المسار.
الروايات المختلفة حول لقاء الشاعر كُثيّر بمحبوبته عزّة، وإحداها حصلت بالحج
كُثيّر وعزة، قصة حب من التراث العربي تثير وتغري إلى أقصى حدود الإثارة والإغراءقد يكون مردّ اختيار الحج لعدة أسباب: أولها أن قصص الحج لها وقعها عند الناس، ولأن الحج كان فرصة نادرة لاجتماع الناس في مكان واحد، لا تضاهيه أية مناسبة. وكذلك فإن كون الحج مكان وزمان اللقاء يعطي قصة حبهما براءة لتنسجم مع قصص الحب العذري، وربما يكون هذا التفصيل ترجمةً للرغبة في تحويل هويتها إلى قصة من قصص الحب العذري.
وقد ساعد في ذلك أن كُثيراً يذكر الحجّ في أشعاره، ولو بشكل رمزي. فمثلاً، يؤكد أن حبه لن يتوقف أبد الدهر، فيستعير الحج لترميز ذلك، فيقول:
"أناديك ما حجَّ الحجيجُ وكبّرتْ بفيفاءِ آلٍ رُفقةٌ وأهلّتِ"،
وفي بيت ثانٍ، يقول بأنه لم يلتق عزة، وكأن حج كل منهما لم يتزامن مع الآخر، وهنا لأن للحج موسماً واحداً لكل المسلمين، قصد كُثير أن يغالي باستحالة لقائهما، فيقول:
"كأن لم يوافقْ حجّ عزّة حجّنا ولم يلقَ راكباً بالمحصّب أركبُ"
والمحصّب موقع رمي الجمار (أو الجمرات) بمنى.
وأقترح أيضا سبباً أخيراً، له علاقة وثيقة بهوية كثير كما قدّمتها أخباره، حيث أن ابن سلام الجمحي في طبقات فحول الشعراء عرفه بـ"شاعر أهل الحجاز"، وذكر بأنه حظي بمكانة عند قريش، وبأنه لم يتمتع بالشهرة نفسها عند أهل العراق. وهذا التوصيف له دور كبير في قصتنا هذه. لأن كُثيراً عاصر أشهر شعراء العصر الأموي، جرير والفرذق والأخطل - وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن تقييم الشعراء اعتمد نظام الطبقات والأجيال الذي كان أساساً لتأطير التواريخ في القرون الإسلامية الأولى - فإذاً، لم يكن هناك ما يميّزه ويبرزه، ولذلك تبنت قصة لقائه بعزّة "الحج" لتدمغ أشهر أخباره بالخلفية المميزة له، وهي كونه شاعر الحجاز.
"وما كنتُ أدري قبل عزّةَ ما البُكا"
في أخبار كُثير انطباعات مختلفة يمكن أن نستشفها عنه، والتناقض حوله وحول سيرته وشعره وحبه يشكل وحدة لا يمكن فصل جزء منها عن الآخر لئلا تتفكك القصة كلها. وفي السؤال إن كان حبه لعزّة حقيقة أم "قولاً"، مجال لتحليل العلاقة المركبة بين الشعر والأخبار التي تؤطره، وكذلك بين المحكي والمكتوب.ولكن الحقيقة تبقى في أن حالات الحبّ الشفافة في شعره ومناشدته لعزة بعدما تركته ولم يبق هناك أي أمل، كقصة قيس وجميل والمجنون، تشدنا وتسحرنا باستحالتها وخيبتها. وفي معاكسته للمستحيل، يتخيّل كثير عدداً من السيناريوهات التي يمكن أن تجمعه مع عزّة، أختتم بإحداها حيث يتمنّى لو أنه وعزّة بعيران مصابان بالجرب، يرعيان ثم يضيعان معاً في الخلاء، فيقول:
ألا ليتنا يا عزّ كنّا لِذِي غِنى بعيرين نرعى في الخلاء ونعزبُ
كلانا به عرٌّ فمَن يَرَنا يقُلْ على حسنها جرباءُ تُعدي وأجربُ
إذا ما وردنا منهلاً صاح أهلهُ علينا فما ننفك نُرمى ونُضربُ
نكونُ بعيريْ ذي غنى فيضيعُنا فلا هو يرْعانا ولا نحن نطلُبُ
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...