ينظر المراقبون إلى السياسة التركية مع كل من إيران والسعودية، بشيء من التعجب، نظراً للازدواجية التي تشوب تلك العلاقة. وقدرة الجانب التركي على الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع قوتين إقليميتين فاعلتين في المنطقة، بينهما صراع عسكري وسياسي واقتصادي عابر للحدود.
النمر والتناقض في موقف الحكومة والرئيس
اتضح ما يمكن تسميته بالموقف الرمادي التركي بشأن الأزمات السعودية - الإيرانية، في العديد من القضايا والمجالات، أبرزها قضية إعدام السلطات السعودية لرجل الدين الشيعي نمر باقر النمر، وردود الفعل الإيرانية الرسمية والشعبية التي تلته. يقول الباحث بمركز الخليج العربي للدراسات الإيرانية، أحمد فاروق، لرصيف22: "في البداية تناقض موقف أنقرة الرسمي حيال أزمة توتر العلاقات بين إيران والسعودية. ففي الوقت الذي اعتبر فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إعدام المواطن السعودي نمر باقر النمر، شأناً داخلياً سعودياً، كان موقف الحكومة متناقضاً لموقف الرئيس. فأعربت الحكومة عن أسفها لقرار إعدامه، وقال المتحدث باسم الحكومة التركية نعمان كورتولموش: "نحن نعارض كل أشكال عقوبة الإعدام خصوصاً لدوافع سياسية". ووصف خطوة الحكومة السعودية بأنها لا تساعد على تحقيق السلام في المنطقة، مؤكداً أن بلاده تربطها علاقات صداقة مع البلدين، ولا يريد لهما أن يقتتلا لهذا السبب، لأن هذا آخر شيء تحتاجه المنطقة. وأضاف فاروق: "على الرغم من هذا الموقف المتناقض بين الرئيس والحكومة، عدلت تركيا من سياساتها سريعاً، فقام رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، بزيارة طهران في مارس الماضي، بشكل مفاجئ، في خطوة تعتبر مؤشراً لرغبة أنقرة في عودة العلاقات مع طهران إلى طبيعتها، بعد فترة من الجفاء. فتركيا لا تقطع علاقاتها الاقتصادية مع أي دولة، خصوصاً إذا كانت من الجوار، كما أن معظم الخلافات بين البلدين بسبب طرف ثالث". وأشار فاروق إلى أن أوغلو تعهد تطوير العلاقات مع إيران ورفع التبادل التجاري بين البلدين إلى 50 مليار دولار، إذ شكّل رفع العقوبات الدولية عن طهران محفزاً لأنقرة لتجاوز الشكليات والسعي إلى بناء علاقات اقتصادية أكثر متانةً مع طهران. زيارة أوغلو جاءت بعد اتهامات صريحة من وسائل إعلام إيرانية بتواطؤ أردوغان مع السلطات السعودية في قضية إعدام النمر. وهذا ما دفع السلطات التركية إلى استدعاء السفير الإيراني لدى أنقرة، وإبلاغه احتجاج أنقرة رسمياً على ما وصفته بالحملة الشرسة التي تشنها وسائل إعلام مقربة من دوائر رسمية إيرانية. وعلى الرغم من الحرب الإعلامية التي نشبت بين الجانبين التركي والإيراني، زار الرئيس الإيراني حسن روحاني أنقرة للمشاركة في مؤتمر القمة الإسلامي. ورغم انسحاب الوفد الإيراني من جلسة البيان الختامي، بسبب تضمنه إدانات لإيران وحزب الله، على خلفية حرق السفارة السعودية بطهران، التقى روحاني الرئيس التركي وعقدا جلسة خاصة تناولت سبل تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين.الاقتصاد وازدواجية السياسة
الجانب الآخر لازدواجية السياسة التركية بين السعودية وإيران يظهر في الشق الاقتصادي من العلاقات بين الدول الثلاث، فتلعب حاجة الجانب التركي إلى مصادر الطاقة دوراً فاعلاً في هذا الإطار. يقول خبير الشؤون التركية محمد حامد إن العلاقات التركية الإيرانية إستراتيجية جداً، إذ تعتمد أنقرة على النفط الإيراني الذي لم تحظر شراءه بسبب العقوبات الاقتصادية، بل ساعدت طهران في عمليات غسيل الأموال والهروب من العقوبات الدولية. بالإضافة إلى أن تركيا كانت صوت إيران الدبلوماسي في المحافل الدولية. فتركيا مكنت الجانب الإيراني، خلال سنوات الحصار الاقتصادي، من التعايش والالتفاف حول 17 قراراً غربياً أثرت بشكل كبير على الاقتصاد الإيراني. وأشار حامد إلى أن تركيا ساعدت النظام الإيراني على مواجهة 5 قرارات أصدرها مجلس الأمن الدولي بين عام 2006 و2010، شملت عقوبات اقتصادية وتجارية وعسكرية، طالت نحو 100 كيان اقتصادي. كما ساعدتها في مواجهة 7 قرارات أمريكية بين عامي 1979 و2013، أبرزها حظر اقتصادي تام عام 1995، أعقبه عام 1996 قانون العقوبات على إيران، الخاص بفرض عقوبات على الشركات مهما كانت جنسيتها، التي تستثمر في قطاعات النفط والغاز في إيران. و5 قرارات أخرى أصدرها الاتحاد الأوروبي في الفترة الممتدة من 2010 إلى 2012، شملت حظر سفر بعض الشخصيات الإيرانية، وحظر تقديم المساعدة التقنية والتكنولوجيا النفطية لإيران. وفي مطلع العام الجاري، زار رئيس غرفة تجارة مدينة غازي عنتاب التركية، أيوب باتيك، غرفة التجارة والصناعات والمناجم الإيرانية. وقال في تصريحات لوكالة "مهر" الإيرانية، إن بلاده تعتبر بوابة لإدخال السلع الإيرانية إلى أوروبا، بينما تعتبر إيران بوابة لدخول السلع التركية إلى آسيا الوسطى. ومنذ دخول الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب حيز التنفيذ، زاد حجم التبادل التجاري بين إيران وتركيا بنحو 30%. في المقابل، سعت تركيا إلى تحسين علاقاتها الاقتصادية مع السعودية، بالتزامن مع التقارب السياسي، وتدعيم مواقف المملكة في قضايا كحرب اليمن والتقاء المصالح في سوريا. وبحسب وكالة الأناضول التركية، وصل حجم التبادل التجاري السعودي خلال عام 2014 إلى نحو 5 مليارات دولار، أي تضاعف بنحو 5 مرات خلال السنوات الخمس الماضية، بينما بلغ حجم التبادل التجاري مع إيران في العام نفسه نحو 14 مليار دولار.سوريا مسرحاً للازدواجية التركية
شكلت الأزمة السورية منذ اندلاعها عنصر صراع بين السعودية وإيران. دخلت تركيا على خط الأزمة السورية، بعد امتداد عمليات القتال إلى مناطق حدودية مع الجانب السوري. ودفع التقاء المصالح السعودية والتركية في سوريا، إلى تنسيق وتوأمة المواقف بين البلدين، أبرزها الرفض التركي للوجود الإيراني في سوريا. ويشير حامد إلى أن العلاقات التركية السعودية بدأت من أجل إسقاط النظام السوري فقط، لكن زيارة الملك سلمان الأخيرة لأنقرة شكلت بداية لتطوير العلاقات بشكل منظم. وأضاف أن المفارقة الغريبة أن إيران والسعودية رفضتا محاولة الانقلاب في تركيا. لكن نُسب تصريح لرئيس وزراء تركيا علي بن يلدرم، علق فيه على الأنباء عن وقوف السعودية وراء الانقلاب بالقول: "لا يوجد دخان بلا نار"، وهو تصريح قد يؤثر على مسار العلاقات السعودية التركية في المستقبل، على الرغم من نفيه. وأوضح فاروق أن الأزمة السورية وتعرض تركيا لهجمات إرهابية أخيراً، جعلت من أنقرة دولة تسعى نحو مزيد من التواصل والتنسيق مع إيران، للخروج بحل للأزمة، بعد اقتناعها بثبات حكومة الأسد. وذلك ما كشفته الأيام، خصوصاً بعد محاولة الانقلاب في تركيا، إذ تبدلت السياسة التركية نحو مزيد من التنسيق مع إيران. وظهرت ملامحه عقب زيارة وزير الخارجية التركي لطهران، إذ صرّح رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم: "يمكن اعتبار الأسد طرفاً في مرحلة انتقالية لكن لا يمكن أن يكون جزءاً من مستقبل سوريا"، ما يعني تراجع أنقرة عن موقفها السابق حيال رحيل الأسد الفوري. ومن مصلحة أردوغان الحفاظ على سياسة خارجية متوازنة، في ظل وضوح انقسام الجيش لتيارين، علماني وإسلامي. ويرى الإيرانيون في "حزب العدالة والتنمية" الذي يتزعمه أردوغان حزباً إسلامياً من الواجب دعمه. وقال فاروق إن الاهتمام مشترك بين أنقرة وطهران بالملف الكردي، فالمساحة الجغرافية المشتركة بين تركيا وإيران توجب تلك الأخيرة أن تحافظ على علاقات إيجابية مع أنقرة. وبذلك تجاوزت تركيا الخلاف مع إيران، لدعم الأخيرة في ملف الأكراد، في ظل تصاعد وتيرة العمليات المسلحة داخل إيران من قبل الأكراد. وتعتبر إيران الأكراد "خصماً مشتركاً"، مع تأكيدها أن الأكراد في إيران يتمتعون بامتيازات غير موجودة في سوريا وتركيا. وهم ليسوا "قومية مظلومة"، بل إن انتماءهم لإيران كبير جداً، لكن ذلك لا يمنع الأيدي الخارجية من العبث بهذا الأمر. تشاووش أوغلو تحدث خلال زيارته لإيران عن قضايا اليمن والعراق والجماعات الإرهابية الكردية، مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يقوم بعمليات مسلحة داخل الأراضي الإيرانية، وحزب العمل الكردستاني الذي يقوم بحرب عصابات منذ سنوات في الأراضي التركية. وهذا ما يعكس تغيراً جذرياً في الموقف التركي من الأزمة السورية، نتيجة للهجمات الإرهابية التي تعرضت لها، وبداية تحالف إستراتيجي مع إيران ضد الحركات الانفصالية الكردية في كلا البلدين. ويجب عدم اعتبار تقارب تركيا مع إيران أو مع السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، تراجعاً عن التقارب التركي مع أميركا أو أوروبا أو غيرهما، إنما هو سعي لمزيد من التوازنات والعودة إلى صفر مشكلات إقليمية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا