إنّ أي معنى ليس له وجود ممتد ما لم تستطع التعبير عنه بكلمة محدّدة، حتى الصورة لا تفعل ذلك، بل قد تخلق الكلمة وجوداً ملموساً لما هو خيالي. يمكنها أن توجد مدينة على خارطة، كما حدث لمنطقة “أغلو” Agloe في نيويورك، كلمة لا معنى لها وضعها مصممو خرائط في الثلاثينيات من القرن الماضي على خريطتهم لحفظ الحقوق. وبعد سنوات عندما ظهرت خريطة جديدة تحتوي على منطقة أغلو، لم يستطع أصحاب الخريطة الأصل إثبات السرقة، لأن النّاس صدّقوا وجود هذه المنطقة وقاموا في الخمسينيات بإنشاء محطة ومحلات تحمل اسمها، فلم تعد مجرد كلمة وهمية. ورغم إلغائها من الخرائط بدخول التسعينيات، استمرت في ذاكرة النيويوركيين، وظهرت في العام 2008 بشكل طبيعي في إحدى أكثر الروايات مبيعاً بحسب نيويورك تايمز، رواية Paper Town، واستخدمت في العام 2015 في الفيلم الدرامي الذي جسّد الرواية. أغلو، الكلمة التي لا تحمل أي معنى مسبق، هي الآن في قلب منطقة، رواية، فيلم، وذاكرة الكثيرين...
في البدء كانت الكلمة...
تحمل الكلمة في وظائفها وصفاً للذات وللنسبة، فاللون اسمه "أبيض" لأنه كذلك، ولأنه بالنسبة إلى بقية الألوان هو أبيض. يمارس الناس هذا المستوى من التواطؤ على المعنى في لغاتهم على الدوام. في العلاقة الجندرية بين المرأة والرجل مثلاً، تتم الإشارة إلى المرأة بألفاظ خاصة بها لتعكس معنىً مقصوداً، ومن هنا، يكون التسامح مع الكلمات العنصرية هو تواطؤ على المعنى، ومساعدة على تطبيعه وتطويره سواء بقصد أو بغير قصد. تزخر الذاكرة العربية - كأي ذاكرة لغة أخرى - بقائمة من الكلمات التمييزية ضد المرأة والتي شهدت تطوّراً هائلاً في المعنى لم يعد معه من المفيد اعتماد براءة الأصل. فمن السذاجة الالتجاء إلى المعنى التجريدي للقاموس، ما دام المعنى الحاضر في الذاكرة والتواصل والثقافة معنىً تمييزياً مؤثراً.
الرتبة الإنسانية/ الاجتماعية
بكر/ ثيّب: يخترق المجتمع المهووس بفكرة الشّرف الصُوري، خصوصيّة المرأة بإشاعة وصفها ببكر أو ثيّب أمام بقيّة الأفراد. لا يمكننا أن نقول ببساطة أن هذا مجرد وصف لحالة لا تحمل أي تقييم نسبي إلى نظرة الرجل/ المجتمع للمرأة. فالمرأة لا تستيقظ كل صباح لتخبر نفسها أنها سمراء وذات شعر مسترسل وبكر أيضاً، بينما يسألها المجتمع عن كونها بكراً أو ثيّباً، كوصف يحدّد قيمتها الإنسانية ورتبتها الاجتماعية، بدءاً من تسعير المهر وتحديد الأهلية انتهاءً بجرائم الشّرف التي تقننها بعض الدول العربية. ولو كان المجتمع يحتاج فعلاً إلى هذه الأوصاف حاجة غير تمييزية، لوجدنا لها مقابلاً للرجل في "لسان العرب". ولكن ما نقرأه عند الحديث عن الثيب "قال صاحب العين: ولا يقال ذلك للرجل".
عانس: هذا مثال جيّد لفكرة تطوّر المعنى. لفظ عانس كان يُطلَق على الرجال والنساء ليصف متوسّطي الأعمار غير المتزوّجين في مجتمع عربي قديم يفضّل النساء ذوات الخبرة في الزواج، ثم تطوّر ليُطلق على النساء غالباً، والآن يُطلق حصراً على النساء على سبيل التمييز. وتطوّر بشكل أكثر تمييزاً ليكون مرافقاً لرقم عمري محدد في بعض المجتمعات، مع خلق الفكرة الدرامية لقطار العمر، القطار الذي لا يفكّر أن يفوت أحداً إلا المرأة. عانس لفظ تمييزي يحمل تقييماً اجتماعياً متطرفاً يتم من خلاله رفض وجود المرأة في الحالة التي لا تتبع فيها رجلاً ما.
التكنية والاستعارة
نحن متّفقون على أن الكنية أو الاستعارة بحدّ ذاتها ليست منقصة، بل كثيراً ما تكون للتدليل والتحبّب، والفيصل في ذلك هو السياق الاجتماعي. يتم إقران وصف المرأة بـالأهل دلالة على المودة، لكنه في مواقف أكثر يكون على سبيل الشعور بالعار من التصريح بشكل العلاقة (زوجتي… أختي… إلخ) أو بالاسم المجرّد للمرأة في البيئة التي تجد ذلك معيباً. يشعر عدد من الرجال بالحرج عند ذيوع اسم زوجته أو أمه، ويتقصّى رجال آخرون أسماء أمهات رفاقهم على سبيل صناعة المقالب المحرجة. يتطوّر الموقف إلى وصفها بالـ"بيت" وهو أكثر الأوصاف تجريداً من أيّ رابطة إنسانية مع المرأة. يعتبر كثير من الرجال اليوم أن هذا اللفظ تحديداً مرفوض ولا يمكن تبريره.
الحريم: نالت هذه الكلمة نقاشاً واسعاً، نظراً لشيوعها بين فئات المجتمع المتعددة، حتى تلك التي تؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة، ويجد كثيرون صعوبة في الاستغناء عنها. انتشر ارتباطها بفكرة الحرملك العثمانية القائمة على استعباد النساء والتي تُلفظ بالتركية العثمانية (حريم)، بينما في موقفها اللغوي تحمل جانبين متقابلين، الأوّل الدال على النساء: "الحريم: الذي حرم مسّه فلا يُدنى منه (مقاييس اللغة)"، "حرم الرّجل وحريمه: ما يقاتل عنه الرجل ويحميه (لسان العرب)" وهو بذلك يحمل طابعاً تمييزياً يعبر عن المرأة كقطعة محرّمة، تابعة في علاقتها للرجل. أما المعنى الآخر المستخدم للرجل وهو: "الشّريك، الصديق، إذ يقال: فلان حريم صريح أي صديق خالص (لسان العرب/ القاموس المحيط) وهو مختلف تماماً عن المعنى الأول، ولا يجمعهما إلا تشابه المصدر، فحريم الأولى لفظ للجمع وله مفرد، بينما الثانية صفة للواحد. ولا يُقال للمرأة الواحدة: حريم!
تمييز اللغة ضد المرأة: أنتم تبالغون؟
يُعارض البعض الدعوات الرافضة للتمييز اللغوي بحجة أن ليس كل مستخدم لهذه المفردات قاصداً لمعناها السلبي، وهو موقف صحيح من حيث كونه يحدث فعلاً. وشخصياً، أنا ضدّ التنمّر النسوي العشوائي على كل مستخدم لهذه الألفاظ دون إدراك للسياق الاجتماعي، مع استثناء الألفاظ المسيئة بذاتها، فاللغة منتج اجتماعي. لكن في المقابل، فإن غاية التعبير البليغ هي الدلالة على المعنى، وما دمت لا تقصد معناها التمييزي فلا معنى لاستمرارك في استخدامها. كما ينبغي تطهير لغة التعليم والإعلام منها. تفقد الكلمة سطوتها إما بهجران نطقها أساساً، أو بهجران معناها، وتبقى الإشكالية الأساسية هي في مفهوم حرمنة النساء أكثر من مجرد لفظ حاء وميم. ففي الثقافة التي تحتوي على الموقف التمييزي بهذه الألفاظ، فإن كونك - كفرد - لا تقصد معناها غير مؤثر عملياً في كونها تحمل معنى تمييزياً شائعاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.