اعترض طريقي طفل في السابعة من عمره، بدا منهمكاً بعزل الخيار عن القرنبيط، تنفيذاً لأمر امرأة يأتيه صوتها من الداخل. سمعتني أتحدث إلى الطفل، فأتاني صوتها متحفزاً: "أنا قادمة... مَن هناك؟". كانت خطواتي أسرع نحوها، رأيتها تجلس في نهاية الخيمة، تبدو أربعينية، تغطي ملامح وجهها المنهك بقع داكنة. تركت (المخلل) الذي كانت منشغلة بصنعه، ورحبت بي مبتسمة. طلبت منها بعض الماء، فجاءتني بقدح كبير، لكنه لم يرو عطشي، إذ كان الماء فاتراً، والحرارة مرتفعة.
أم محمد، مواطنة سورية (30 عاماً) من منطقة درعا، أم لثلاثة أطفال، تعمل فلاحة لثماني ساعات في اليوم. جلسنا متقابلتين، فدار بيننا حديث ملؤه الشجن، كشف نضال المرأة السورية التي اتخذت من مخيمات البقاع اللبناني وطناً مؤقتاً، حتى تضع الحرب أوزارها.
صور نمطية ومهن محددة للاجئات السوريات
لو جربت كتابة عبارة "سوريات في لبنان"، ستكون أغلب النتائج، عبر محركات بحث الشبكة العنكبوتية، متشابهة، متمثلة بـ"أرقام سوريات للزواج"، "صور ساخنة للسوريات"، "استغلال جنسي"، "سوريات ودعارة"... لكن دخول عالم اللاجئة السورية في لبنان، هو أمر مختلف تماماً عن هذه الصور. في أزمات الحروب، غالباً يختصر كيان المرأة بالكسب السريع، عبر التجارة بالجسد، في بلدان تخشى وترفض فكرة توطين اللاجئات، خصوصاً أولئك المصنفات ضمن فئة "النساء والفتيات المعرضات للعنف". وحسب منظمة العفو الدولية، خلال عام 2014، بلغت نسبة السوريات ممن قدمن طلبات تصنيفهن بـ"المتعرضات للعنف" 7 فقط! وتعود أسباب خوف النساء من الحديث عن تعرضهن للعنف والاستغلال الجسدي لدواع اجتماعية كثيرة. تقول أم محمد: "أعمل في قطف الملوخية مقابل ستة آلاف ليرة يومياً، أقل من أربعة دولارات، من السابعة صباحاً حتى الثالثة بعد الظهر، ثم أعود للبيت لأقوم بكبس المخلل للجيران". ما تجنيه أم محمد لا يكفيها لتسديد إيجار الخيمة وفاتورة الكهرباء لمالك أرض المخيم، وهو لبناني، ويُقدّر ما تدفعه على الأقل، 200 دولار شهرياً. خلال جولتنا في مخيم سعدنايل، البالغ عدد ساكنيه 129 شخصاً، يصل عدد العاملين في صفوفهم إلى 17 فقط، وغالبية المهن التي يمارسونها هي في مجال البناء والفلاحة. ويفرض لبنان على دخول وإقامة السوريين وجود كفيل، إضافة لدفع مبلغ الحصول على الإقامة، ويبدأ من 200 إلى مليون ليرة لبنانية. وكانت وزارة العمل اللبنانية حددت الزراعة وأعمال التنظيف والبناء كمهن يسمح للسوريين العمل فيها.أزمات صحية وسط دعم دولي غير كاف
في الصباح، تنشغل أم محمد بحصد أوراق الملوخية، وتنسحب بين حين وآخر لتطل على طفلها ذي الخمسة أشهر، لتطمئن عليه تحت المظلة. تتحسس جنبها الأيمن بكفها، وهي تكلمني مبديةً انزعاجاً، وتضيف: "ألم المرارة يزداد ولا بد من استئصالها". صحتها آخذة بالتدهور، وباتت بحاجة للمعالجة. فهي تعاني من التهاب المرارة، إضافة إلى خلل في غدتها الدرقية. ومع تأخر حالتها النفسية، تقول: "بت أعاني مؤخراً من فتق في نسيج منطقة البطن، والمستشفى طلب مني دفع 500 دولار لإجراء العملية. وهذا ما لا أملكه". معظم النظام الصحي في لبنان ينتمي للقطاع الخاص، لذا ترتفع أسعار التكاليف الطبية. ومع ذلك تلقي المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بـ25% من كلفة العلاج على كاهل اللاجئ السوري. ولأن لبنان يشتكي من ضعف الإمكانات المادية، وعدم وجود بنى تحتية جيدة، لم يُصادق على الاتفاقية الدولية لشؤون اللاجئين. ويعتبر وجود السوريين على أراضيه كنازحين، وليسوا لاجئين، وهذا ما يدفع بالسوري المقيم إلى تحمل مصاريف عدة، من ضمنها بدل إيجار الخيمة، وخدمات الصحة والكهرباء.المدارس مكان لحماية الفتيات من التشرد
أعدت الجامعة الأمريكية في بيروت عام 2014، بالشراكة مع منظمات تنفيذية أخرى، مشروع "غطا"، الذي شمل 8 مدارس للطلاب السوريين في مخيمات البقاع اللبناني، من ضمنها مدرستان ومركزان للتدريب المهني للفتيات. يقول ربيع شبلي، مدير "مركز الالتزام المدني وخدمة المجتمع" في الجامعة إن المدارس باتت أفضل وسيلة لحماية الفتيات السوريات من التشرد. وتغطي كل مدرسة حاجة 500 طفل إضافة لوجبتين من الغذاء، وهذا أحد أسباب "جذب الأطفال إلى المدارس، على الأقل في الموسم الذي يكون بعيداً عن الحصاد. لكن غسان معلم الابتدائية في إحدى مدارس مخيم الطلياني، يقول: "من الصعب إلزام الطلاب بالصف الدراسي خلال أوقات قطف الثمار صيفاً، فالأهالي يدفعون أطفالهم للعمل، برغم الأجور المنخفضة جداً". ويكشف أن "هناك خطة لتنفيذ عشر مدارس جديدة، ونحن نفكر بأن يكون منهج التدريس أكثر تقدماً، ليشمل مواضيع التنمية وإعادة الإعمار والمصالحة بين المجتمعات". ويضيف: "تحدياتنا في مثل هذه المشاريع، هي عدم وجود خطة وطنية شاملة في ما يخص اللاجئين، لذلك نحن بحاجة مستمرة للبحث عن شريك يضمن تنفيذ المشاريع بشكل جيد، ويشترك معنا بالرؤية والمصداقية. لمياء، برغم عملها مع والدتها في مزارع البقاع، ما زالت تكمل تعليمها في الصف الثامن في مدارس المخيم. حين سألتها: "هل ستكمل الدراسة في السنة المقبلة؟ فاجأتني بالقول: "أريد التعلم ولا أفكر بالزواج. فأنا ما زلت صغيرة". ولدى سؤالي من أين عرفت هذا الكلام؟ قالت: "كنت أتردد مع والدتي على مركز تابع لمنظمة نسوية في المخيم، إضافة إلى مشاهدتي بعض البرامج التلفزيونية". أجابتني لمياء مع ابتسامة خجولة رغم الكدمة الزرقاء التي كانت تحيط عينها اليسرى! قصة أم محمد وعائلتها واحدة من بين آلاف القصص للاجئين السوريين في مخيمات البقاع اللبناني. ما يميز هذه القصص أنها بقدر اختلاف بداياتها تبقى مشتركة في أنها بلا نهايات، فالمأساة لن تنتهي ما دامت الأزمة السورية حية ترزق حتى اللحظة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...