شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
خرج ولم يعد

خرج ولم يعد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 30 أغسطس 201604:11 م
ينتظر الجميع العيد ليفرحوا، وينتظره هو ليجدّد الذكرى. كان عمره عامين، خطى أولى خطواته ونطق كلماته الأولى. صبيحة ثاني أيام العيد، لعب مع أخيه الذي يكبره بثلاثة أعوام، لبسا ثياب العيد الجديدة... لم يكن يعرف بعد عن الموت شيئاً إلّا أصوات القذائف ولعلعة الأعيرة النارية. لم يكن ليميّز بين أزيز الرصاص وألحان الموسيقى، فابن العامين فضّل اعتبارها ألحاناً، لربما ساعده ذلك على فهم موسيقى الموت. كانت الجدّة تسكن في طريق الجديدة - بيروت، بينما ابنها وأطفاله يسكنون البسطا التّحتا. في زمن الحرب الأهلية والمحاور، فرضت خطوط التّملس نفسها حدوداً للسكان، تحت طائلة الخطف أو القتل، أو الإذلال إن كان عابر الحواجز محظوظاً. محمد قبطان، رب عائلة مؤلفة من شابّين، غادر منزله لمعايدة أمّه التي تقطن في طريق الجديدة، لكن محمّد، ذا الـ37 عاماً خرج ولم يعد. انتظرته عائلته، وطال الانتظار... 30 عاماً ولم يعرفوا عنه شيئاً، لم تنتهِ الحرب بالنّسبة لآل قبطان وأكثر من سبعة آلاف عائلة. صحيحٌ أن خطوط التّماس اختفت ولم يبقَ منها إلا أبنيةٌ شاهدة على الذكرى، وصحيحٌ أن أمراء الحرب أصبحوا نوّاباً ووزراء، كأن حقبة الحرب التي دامت 25 سنة قد طويت، لكن العائلات لا تزال تنتظر عودة من فقدت. كبُر الأبناء وهم يحتضون الصور، متعلّقين بأملٍ هو خشبة الخلاص المنشود.

كوابيس وعدوانية

لم تكن طفولة جلال محمد قبطان عادية، إذ لا يعرف عن أبيه شيئاً سوى أنه كان طويلاً ذا بشرةٍ سمراء، يزوره نادراً في أحلامه، بينما زارته الكوابيس كل ليلةٍ من ليالي الطّفولة. ابن العامين عاش في كنف والدته. حاولت الوالدة عبثاً تعويض غياب الوالد المفقود، ونجحت لكن أثر الغياب لم يختفِ. “راودتني الكوابيس في كل ليلة، أراه معي، أركض ليحتضني ويختفي طيفه قبل أن أصل إليه، كان العالم ومن فيه بالنسبة لي أعداء، كنت أخدش السّيارات وأفتعل المشاكل". حاول جلال تعويض غياب الوالد، حامي العائلة وحصنها كما يصنّفه المجتمع الشّرقي، بعدوانيةٍ مفرطة. جلال ومثله كُثُر، لم يخضعوا لعلاجٍ نفسي يساعدهم على تخطي الأزمة التي خلفّتها الحرب، ولو أنه تجاوز الحالة اليوم، لكنها لا تزال قابعةً في ذكرياته. يروي كيف كان ينتظر ابتسامة والده في احتفالات المدرسة، وكيف كان يتخيّله واقفاً، يسمع كلماته ويبتسم. يتذكر طفولته ويبتسم. في الابتسامة حرقةٌ لم تمحُها السّنون الثّلاثون، "لي حلمٌ لا يزال يحتلّني، عودة والدي، كي أحدّثه عن كل شيء، عن العطب الذي خلّفه المغيب، وعن شوقٍ أحرّ من حمم البراكين".

حاولنا كثيراً ولم نجد إليه سبيلاً

طرقت أم جلال أبواب جميع مسؤولي المحاور وأرباب الحرب، من الفصائل اللبنانية وصولاً للفصائل الفلسطينية. أنكر الجميع معرفتهم بمكان زوجها، وتوحّدوا في الإجابة بالرّغم من خلافات الحرب، "لا نعرف شيئاً عنه ولم يمرّ من هنا"، حاولت مراراً اقناعهم بأنه سلك الحاجز، لكنهم أنكروا، بخُل الخاطفون عليها حتّى بكشف مصيره. لم تزر خيمة الاعتصام في "الاونيسكو"، احتفظت هي وأولادها بسجلٍ من الصّور والوثائق والذكريات، وربتهم عليها. تعمل نهاراً لتعيل ولديها وتحتضنهما ليلاً. أغلق الجميع أبوابهم بعد الحرب. لم يساعدوا الضّحايا، عائلاتٌ فقدت معيليها ودولة أهملت مواطنيها ولاجئيها، وانصرف حكّامها لمشاريع إعادة الإعمار وتقاسم المكاسب والحصص. لم يكن محمد مقاتلاً على خطوط التماس، لم يحمل السلاح، حمل صندوق عدة العمل فقط، لم يشفع له ذلك، فخطفوه وأخفوه جلال اليوم اختار العمل في مجال الإعلام. يؤكد أن المظلوم يعي جيّداً معنى أن يبكي غيره، يسمع حرقة غيره ويلمسها. الضّعف يخلق قوة لا يمكن لأحد تخيّلها، “ربّتنا والدتي على هذه المبادئ، أنظر إليها اليوم واتذكر كم بذلت من جهدٍ ووقتٍ لتجد أبي. كنّا صغاراً حينها ولم يساعدها أحد في تربيتنا، تخيّل، دخلت سوق العمل الذي لم تعرف عنه شيئاً سوى أحاديث سمعتها عنه من والدي، اتعرف معنى القداسة، هي أمّي”. يحدّثني جلال عن نجله المولود حديثاً جواد. يبتسم، يكاد يحتضن الصورة عند عرضها. عاش جلال طفولةً صعبةً يخاف على "جواد" تجربتها. يحرص على البقاء حوله دائماً، يضحك ويجزم أنه لم ينم إلّا قليلاً منذ أشهر، يرفض النّوم لأن النّوم قد يبعده عن نجله. “أرى فيه نفسي، وأسعى لتعويضه عن شعورٍ انحرمت منه". يتخيّل مشاهد مستقبلية، كيف سيلعب وجواد بالكرة، كيف سيراقب معه مسيرته الدراسية ويضحك. بينما كان جلال يحدّثني، كنت انظر في عينيه، يشعر بفخرٍ كبير عند حديثه عن انجازات أمه، لتتغيّر النّظرة وتختلط بدموعٍ تأبى ان تنسكب عند حديثه عن والده، لا تلبث ان تتبدد عند ذكر جواد، "يبكي ليلاً فأحتضنه، يقولون إن الابن يشعر بالأمان في حضن والده ووالدته، أنا أستمد من جواد القدرة على الحفاظ على حلمي بلقاءٍ موعود طال انتظاره، جواد هو من يشعرني بالأمان، بأن في الحياة عدلاً سيطال الجميع ولو بعد حين". يختصر جلال علاقته بنجله بعلاقةٍ فقدها هو، لم يسعفه الوقت ليبني ذكرياتٍ مع والده، كان الخاطف أسرع.

من يُغلق الملف؟

بعد انتهاء الحرب الأهلية عسكرياً، اعترف بعض زعماء الحرب والمقاتلين بجرائمهم، ودلّوا اللجان التي عملت ولا تزال، كالصّليب الأحمر الدولي، على مواقع المقابر الجماعية، وأسماء بعض المختطفين الذين سُلّموا للنظام السّوري أو إسرائيل. تظهر بين الفينة والأخرى شهاداتٍ من معتقلين خرجوا من السجون السورية عن معتقلين آخرين لا يزالون فيها، لا سيما في سجني تدمر وصيدنايا. حاول جلال وعائلته التّقصي عن مصير والده ولكنهم لم ينجحوا في الوصول إلى أي خيطٍ او بصيص أمل، لكنهم لم ييأسوا، ومعهم عائلات كثيرة، من محاولة البحث. يمكنك عند فقدان عزيزٍ اختاره القدر ليغادر الدّنيا أن تزوره في قبره، يمكنك عند سجن قريبٍ أو خطفه أن تزوره في سجنه، لكن كيف تزور من غُيّب وأصبح مصيره مجهولاً. يبلغ محمد قبطان من العمر اليوم 67 عاماً، بدل أن يتقاعد ويتفرّغ لمراقبة أحفاده ونجاح أبنائه، اختار له الخاطفون مقراً آخر. يقبع في وجدان زوجته وذكرياتها، فجلال يجزم أن والده لم يغادرهم لحظة، بل هو حاضرٌ كطيفٍ في القلب، وكمقيمٍ دائمٍ في الذكريات، كأي مفقودٍ آخر. انتهت الحرب الاهلية، لكن معانته لم تنتهِ، والحرب بين اليأس والأمل لا تزال على أشدّها بين أفراد عائلته وفي وجدانه، إن لم يكن أسيراً في مكانٍ ما.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image