طالما ارتبط أذان الفجر بصورة رومانسية للقاهرة، مدينة الألف مئذنة (كما أطلقوا عليها قديماً) جسدتها أفلام الأبيض والأسود الكلاسيكية. فيأتي الأذان محمولاً بالأصوات العذبة والفخيمة، التي تفتح طاقة للنور، تشاغب المشربيات وأعواد الريحان والندى على "القلة القناوي". وبينما ينهض الكبار والعجائز للصلاة، يختتم أحد ممثلي الأبيض والأسود مشهده على دعوة وعظة، وينفض الساهرون في الحواري، عائدين إلى البيوت بعد سهرة حفها الدخان، وربما يدخل أحدهم إلى المسجد الواسع ليؤدي الفريضة متطهراً من كل رجس. أما الآن، فصار الأذان في القاهرة الكبرى التي باتت مدينة الـ4 آلاف مئذنة، وصلة من الإزعاج والفوضى تقض المضاجع، وتقبض القلب فجراً.
ظاهرة اسمها أذان الفزع
يمكن أن نطلق على ظاهرة تحكم الأصوات المنفرة والمزعجة بميكرفونات الجوامع والزوايا، "أذان الفزع"، لنلخص ما يعانيه الكثيرون في مشهد الفجر، الذي وصل إلى حد من الفوضى والعبث، تماماً ككل المشاهد التي دفعت في ما بعد إلى الثورة. وصلت الظاهرة ذروتها عام 2010، ما دفع السلطات المصرية إلى مواجهة الوحش الذي ربته لتجريف المجتمع، فوقف إمامها على المنابر، ونادى في الميكروفونات مهدداً. بدأت الحكومة إصدار قرارات مفاجئة، مثل إصدار وزارة الأوقاف، قراراً أثار جدلاً واسعاً، هو قرار الأذان الموحد في 4 يوليو 2010. قررت وزارة الأوقاف تنفيذ مشروع الأذان الموحد في شهر رمضان في القاهرة، على أن يعقبه مباشرة تطبيقه في محافظة الإسكندرية. وأعلن الوزير محمود زقزوق آنذاك، أنه سيتم إلغاء جميع مكبرات الصوت، من الزوايا والمساجد الصغيرة، التي تقع بين المناطق السكنية. وتحت قبة البرلمان المصري، انتفض بعض نواب الشعب على قرار الأوقاف، وأعضاء المجالس الشعبية المحلية، والكثير من آئمة المساجد، وعمال الزوايا التابعين للوزارة، مدفوعين بهجمة سلفية على قرار زقزوق، واعتباره طعنة في ظهر الإسلام. وكانت لجنة الشؤون الدينية بمجلس الشعب المصري، أعلنت رفضها أكثر من مرة قرار وزير الأوقاف، بتوحيد الأذان في المساجد، استناداً إلى أن "توحيد الأذان عبر إذاعته بصوت حي لأفضل الأصوات المختارة يعطل شعيرة من شعائر الله حث الرسول على التسابق لأدائها". ورد زقزوق على ذلك بأن "توحيد الأذان جائز شرعاً وليس بدعة"."كأن الدين عند الله الميكروفون"
لم يترك الأزهر رجاله في الأوقاف فريسة لهجمة الوهابيين والسلفين في مصر. وظهر الدعاة الأزهريون على القناة الخاصة بالجامع الكبير، ليدافعوا عن شرعية القرار، معتبرين منتقدينه جاهلين، إذ كان القرار في الأصل تنفيذاً لفتوى مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، التي أجازت أن "يرفع الأذان مباشرة على الهواء بصوت أحد المؤذنين، ولم تجز أن يكون بواسطة شريط كاسيت". هاجم الشيخ خالد الجندي، في أحد برامج قناة أزهري، التي أنشأت لمواجهة القنوات السلفية، الكثير من العاملين في المساجد والزوايا الذين شنوا هجوماً على القرار، إذ يقومون بمهمة الأذان دون الخضوع لمعايير فنية، وبغض النظر عما إذا كانوا لائقين لأداء المهمة أو لا. وقال الجندي مستنكراً تمسك عمال الزوايا والمساجد بالصوت العالي، والذي لا يراعي المرضى وكبار السن والطلاب الذين يسهرون للدراسة: "كأن الدين عند الله هو الميكروفون". وشبّه ارتفاع أصواتهم بـ"صوت الحمير"، مبرراً ذلك بما جاء في سورة لقمان "واغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير". بدأت الأوقاف مشروعها، وقالت إن كلفة وحدة الإرسال التي تم تصنيعها خصيصاً لهذا الغرض، تبلغ 170 جنيهاً مصرياً (19$)، شاملة الضريبة والضمان لمدة 3 سنوات بعد التركيب والفحص، لتنفي ما وصفته بشائعات المعارضين للمشروع، الذين صرّحوا بأن كلفته تصل إلى المليارات، والأولى أن "تتوجه المليارات إلى الدعاة ورفع مرتباتهم لتحسين صورة وجوهر الداعية الإسلامي المصري"."الأوقاف فاشلة وكل واحد فاكر نفسه بلال"
"عالم ومعلم في عالم المقامات والأنغام، وتتلمذ على يده في علم المقامات مرنمون مشهورون، ومطربون في عالم الغناء، ومنشدون في عالم الإنشاد الإسلامي، ومؤسس فرقة العشق المحمدي للإنشاد الديني". هكذا تعرف إحدى الجرائد المصرية الشيخ وليد شاهين الذي كان أحد أعضاء مجلس إدارة واحد من المساجد الكبيرة في حي بولاق أبو العلا الشعبي العتيق بالقاهرة. يعتبر شاهين أن منظومة وزارة الأوقاف فاسدة وعلى خطأ، ولا تؤدي الدور المهم المنوط بها، مشيراً إلى أنها “فشلت في تحقيق أي شيء، ولا توجد لديها أي حلول، حتى لو سطحية”، ملمحاً إلى القرار الأخير لمحمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، بتوحيد خطبة الجمعة. يتفق مع شاهين العديد من الأئمة ورجال الأزهر، مثل الدكتور أحمد كريمة الذي وصف القرار بأنه "إهانة لبلد الأزهر وبدعة مرذولة ستؤدي إلى قتل الابتكار". القضية حسب الشيخ وليد، ترجع إلى "أننا لا نعطي العيش لخبازه"، إلا في المساجد والجوامع الكبيرة. لكن الجوامع والزوايا الأخرى، التي "مش عليها العين"، فإن أي شخص لا يحفظ سوى كلمات الأذان يقوم بالمهمة. ويقول: "أنا موجوع، فمن يؤذن الآن في غالبية تلك المساجد، إما شخص يجعر، إما واحد صوته مش باين. وكل واحد فاكر نفسه بلال، ولا يعلم شيئاً عن فقه الأذان". ويقول شاهين إن ذلك يشير إلى أن الدين تم اختزاله في المظاهر والاستعراض. ويتجلى أيضاً في المواصلات العامة، مثل مترو الأنفاق، حيث يمسك أحدهم بالمصحف ويتلو منه بصوت مرتفع، ولا يشغله أن يقرأ قراءة خاطئة أو أن صوته مزعج، ومن الممكن أن تجد أمامه آخر يقرأ من الإنجيل. وكأنها "خناقة" على إثبات أحقية كل منهما في الاستعراض الديني. يبدو أن مشروع الأذان الموحد كتب له الفشل، بحسب الشيخ وليد، لعدة أسباب منها سوء الإدارة التي تتمتع بها وزارة الأوقاف، وفشلها كمنظومة، ويتضح ذلك في أبسط الأمور، مثل عدم قيامها بصيانة أجهزة الإرسال بالجوامع. ورغم ما يقع تحت مسؤولية الأوقاف من ثروة وطنية، فإن الرواتب التي ترصدها الأوقاف لمقيمي الشعائر والعاملين في المساجد، غير واقعية على الإطلاق."هل أنت راض عن مؤذني الفجر في منطقتك؟"
سؤال وجهناه إلى بعض سكان القاهرة الكبرى. بعضهم رفض الجواب، وبعضهم أعلن رفضه وضيقه من حال الأذان، وذلك على غير العادة، حين يدور الحديث حول أبسط المسائل المتعلقة بالدين. حرص الشاب الثلاثيني محمد في صباه، على الذهاب لأداء الصلوات الخمس في الجامع العتيق في منطقة باب الشعرية بالقاهرة الفاطمية، وخصوصاً صلاة الفجر. ويحكي أن أصوات المؤذنين حينها كانت تبعث في نفسه شيئاً من الطمأنينة وتجذبه إلى القبة المزخرفة، سيراً في أزقة المماليك القديمة. يؤكد محمد الذي يعمل مديراً إدارياً في إحدى شركات التسويق وإدارة المشاريع، أن الأذان في المنطقة التي عاش فيها في ما بعد، بالقرب من الأهرامات الثلاثة، وتتسم بالعشوائية والازدحام، أصبح منفراً، وأن أصوات المؤذنين هي السبب في ذلك. فهم "يحدثون ضجيجاً عالياً ومتداخلاً ممزوجاً بأصوات يصعب تحمل وطأتها على أذني الواحد منا، فهي أصوات تأبى الدخول إلى الحلم والانسجام معه حتى توقظنا بأريحية وهدوء". الأسطى عاطف، سائق السيارات الكبيرة، والذي أصبح على أبواب الستين وما زال يجوب مصر شمالاً وجنوباً، يقول إن الأذان، خصوصاً أذان الفجر، في غالبية المساجد التي مر بها، لم يعد "زي زمان". ويذكر مشاجرة في قريته، حين فوجىء باثنين من المسنين يتشاجران للظفر بالميكروفون، والناس من حولهما يحاولون فض العراك. تملكت عاطف الدهشة حينها، كأنه رأى حادثاً مروعاً على الطريق السريعة، على حد تعبيره.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...