كانت عادة الإنسان، منذ نشأته، ولا تزال، البحث عن التفسير لكل ما يدور حوله، وعن معرفة تطمئن خوفه وتشجعه على مواجهة العالم الذي يهدد وجوده كل يوم. وكانت الأسطورة هي البوابة الأولى لتلك المعرفة، وكان عليه أن يخترعها اختراعاً، فالحاجة دائماً هي أصل الإبداع.
هذه هي وجهة النظر الرئيسيّة لتفسير نشأة الأساطير. لكن ما يثير الدهشة، هو رأي أتباع مدرسة كارل غوستاف يونغ في علم النفس، إذ يرجعون نشأة الأساطير وبعض أسس الدين أيضاً، إلى وسائل محدّدة يرسلها إلينا هذا الجزء الغامض فينا، المليء بالإثارة، هو الذي نسميه "العقل الباطن".
يرجع بعض العلماء نشأة الأساطير وبعض أسس الدين إلى عقلنا الباطني، وحاجته للتعبير عن نفسه... ما رأيكم؟
تعرفوا على الحلم الذي أدهش عالم النفس الشهير يونغ، أكثر من كل الأحلام التي حكاها له آلاف الناس...يحمل فراس السواح في مقدمة كتابه الشهير "مغامرة العقل الأولى" وجهة النظر الأولى. فيحكي في المقدّمة قصة الإنسان البدائي من هذه الزاوية، ويقول: "جهد الإنسان منذ البداية لاكتشاف العالم والبدايات والنهايات، وشغلته الغايات والنهايات، وكانت وسيلته إلى ذلك مرتبطة بالمرحلة التاريخية لتطوره نفسياً وعقلياً". كان الإنسان في البداية يرى أن العالم تحكمه قواعد معينة، وكان عليه أن يكتشف ويخترع ما يعينه على التعايش مع الطبيعة. فأتى في بادئ الأمر بالسحر، وآمن أنه قادر على جلب المطر بتعويذة سحرية ما، واتقاء شر الفيضان بأخرى مختلفة. لكن مع مرور الزمن كان يتأكد للإنسان أن رقياته وتعاويذه لا تكفي لمواجهة الظروف والكوارث التي تحيق به. فبدأ بالتوجه إلى الدين، واستنتج لنفسه وجود قوى علوية، تتحكّم في السحاب والرياح والزلازل وتقف خلف كلّ الظواهر، قوى أكبر منه تستطيع أن تقيه شر هذه الأشياء، وربما تحميه من الفناء وتمنحه الخلود. من هنا كانت نشأة الأسطورة ثم الدين.
الأساطير أديان العصور القديمة
في الجزء الثالث من كتاب السواح "ديوان الأساطير" الذي يحكي عن الديانات الأولى في حضارة أهل الرافدين، نجد أن السومريين والبابليين في هذه العصور القديمة، رأوا أن هناك إلهاً يقف خلف كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة. هناك إله للمطر وآلهة أخرى للزرع والنباتات، وإله للرياح وهكذا. ولم يقف الأمر عند حد اكتشاف الظواهر التي تحدث في محيط بيئتهم بشكل متواتر، بل تطلعوا أيضاً إلى حبك القصص عن الخلق ونشأة العالم، عبر سلسلة طويلة من الآلهة، التي يجلس على رأسها الإلهان الكبيران "إنليل" وزوجته "أنكي"، ومن صلبهما أتى كل الآلهة الصغار الذين يمثلون كل ما خلق على ظهر الكون وجميع ما يحدث فيه من أشياء. ولم تكن حضارات اليونان ومصر القديمة بعيدة عن هذا المسار، فملحمة "الأوديسا" زاخرة بهذه الحكايات التي كانت تمثل الدين الرسمي للإغريق حينذاك. كما تعكس جدران المعابد والمقابر في مصر القديمة معتقدات مشابهة. وإن كنا في عصرنا هذا ننظر إلى هذه الأساطير باعتبارها محض خرافات، فقد كانت معتقدات راسخة عند الإنسان القديم. فضلاً عن أن بعض هذه المعتقدات يتشابك مع القصص الدينية في النصوص المقدسة للديانات الإبراهيمية الثلاث. نجد مثلاً في الملحمة السومرية "جلجامش"، قصة عن طوفان أهلك جميع البشر والكائنات في الزمان القديم ما عدا إنساناً واحداً أنقذته الآلهة بأن نصحته بصنع فلك عظيم يصعد إليه هو وأسرته وزوجان من جميع أنواع الحيوانات.الحلم: جسر إلى النفس البشريّة
كان كارل يونغ عالم النفس الشهير تلميذاً لسيغموند فرويد، وبالرغم من الخلافات العلمية بين منهجه ومنهج أستاذه، أتبع الطريق نفسه في تحليل الأحلام. وفسر على مدار حياته عدة آلاف منها على اعتبار أن الحلم هو أفضل طريقة للتعرف إلى النفس البشرية. فالحلم هو الجسر الواصل ما بين عالم غامض ومستتر هو "اللاوعي" وبين الوعي. وهو الخيط الذي من خلاله استطاع يونغ وتلاميذه، الربط بين العقل الباطن "اللاوعي" وبين عالم الأساطير والدين. على مدار تاريخه مع تفسير الأحلام كانت هناك مجموعة من الأحلام لشخص واحد أدهشته أكثر من كل الأحلام التي حكاها له آلاف الناس. وهي لفتاة في الثامنة من العمر، من أبوين غير متدينين، ولم يطلعا طفلتيهما على الكتب المقدسة. لكن الطفلة حلمت بشكل متواتر بعدد من المشاهد تصعد فيها إلى السماء وترى في أخرى تنانين عظيمة "هي رمز الشر في الكتاب المقدس"، وتغوص إلى الجحيم، وأسراب بعوض تحجب الشمس. اعتبر يونغ أن الأحلام ما هي إلا رسائل يبعث بها العقل الباطن إلى الإنسان، لإعادة التوازن إلى جهازه النفسي، أو لتنبيهه إلى خلل ما يحدث داخل نفسه ولا يفطن إليه. دائماً ما تأتي هذه الرموز بشكل غامض يصعب على الفهم. لكن هذه الأحلام التي رأتها الفتاة كانت أكثر من مجرد رموز عن الحياة النفسية لطفلة، خصوصاً أنها تتشابه مع مشاهد من الأساطير القديمة أو الكتب المقدسة التي تحمل في طياتها مشاهد تتشابه مع بعض الأساطير. وإذا أدركنا أن الرموز التي نراها في أحلامنا، مهما كانت غريبة وغامضة، فهي لا تخرج عن جملة الأشياء التي نراها في حياتنا اليومية، فما الذي جعل هذه الطفلة تحلم بهذه الصور التي لم تراها ولم تسمع عنها من قبل؟الرموز الأصليّة
أخذ جوزف هندرسون الخيط من أستاذه كارل يونغ وبدأ بالعمل على هذه العلاقة، فكتب فصلاً مهماً عن الأساطير القديمة، إضافه إلى كتاب المدرسة اليونغية الشهير "رموز العقل الباطن"، وهو الكتاب الذي أشرف الأستاذ بنفسه على إعداده. خلاصة العلاقة بين اللاوعي والأساطير تتلخص في مفهوم "الرموز الأصلية". كان فرويد هو من ابتكر هذا المفهوم، وكان يقصد به أنَّ هناك سمات مشتركة بين كل البشر في تكوينهم النفسي وغرائزهم ومراحل تطورهم، والجهاز النفسي للإنسان يلجأ للتعبير عن نفسه في أحلامنا من خلال الصور الرمزية الغامضة. ولأن هناك سمات مشتركة بين كل البشر، لا بد أن تظهر رموز متشابهة في أحلام كل البشر. ثم أضاف يونغ إلى مفهوم "الرموز الأصلية" هذا، أن الإنسان البدائي نفسه كان يصنع أساطيره الخاصة، كأنّه يحاكي تماماً تلك الرموز التي كان يمليها عليه عقله الباطن، وهي بذاتها التي تظهر الآن للإنسان الحديث أثناء نومه وفي أحلام يقظته. لذلك فإن الأحلام التي رأتها الفتاة، لم تكن إلا إشارات أرسلها إليها جهازها النفسي، مثلما كان يرسلها كما هي للإنسان البدائي في الأزمنة السحيقة.أسطورة البطل المخلّص
درس جوزيف هندرسون عدداً كبيراً من الأحلام وقارنها بمشاهد من الأساطير والعادات البدائية، ليضيف إلى ما سبق أن النفس مثلها مثل جسم الإنسان، تمر دوماً بمراحل من الطفولة إلى المراهقة إلى النضج. والتوترات النفسية التي يمر بها الإنسان في كل انعطافة بين مرحلة وأخرى، تظهر على هيئة رموز ضمنها الإنسان القديم في أساطيره ودياناته وطقوسه. وتظهر للإنسان الحديث "الذي تخلص من الأساطير وربما الدين في كثير من الأحيان"، على هيئة أحلام. ومثال على ذلك "أسطورة البطل المخلص" الموجودة تقريباً في تراث الإنسان القديم كله، والتي تظهر لنا الآن على شكل أحلام في المنام واليقظة. وما هي إلا تعبير عن حاجة العقل الباطن للخروج إلى مرحلة جديدة من مراحل نضجه فيستعين برمز البطل، لشحذ همة الإنسان للعبور به إلى عالم الكبار. لذلك تكثر أحلام البطل الخارق بالذات بين المراهقة والنضج. وعليه، يرى يونغ أن الأساطير والدين لم ينشآ من اختراع الكهنة والسحرة والملوك في العصور القديمة، بل كانا مجرد وسيلة للعقل الباطن للتعبير عن نفسه...رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين