أسئلة زميلتي "كارولين" المتكررة حول كيف نعيش نحن في سوريا أثارت دهشتي، إذ قالت لي: "لا أستطيع تخيّل حياتكم"، لكن سؤال صديقتي "مي": "كيف تأكلون؟" حوّل هذه الدهشة إلى نوبة صادمة من الضحك، فأجبتبها بعفويّة: "نحن مثلكم!".
قبل أن أحكي لكم عن حياتنا في مدينة حلب السورية، يجب أن نتفق على أننا رغم الحرب، ورغم كل ما نمر به هنا من قتل وفوضى سلاح، لم نزل مثلكم.
نعم، فنحن نحب، ونصلي، ونبكي، ونفرح، وأنا لم أزل محافظاً على عادتي في سماع الأغاني الهادئة آخر ساعات الليل، محاولاً تجاهل أصوات القذائف وهي تشق طريقها في السماء فوق رأسي، أما صديقي "فادي" – شريك المنزل – فلا يكف عن ملاحقة مباريات كرة القدم من قناة إلى أخرى، يحدق في شاشة التلفاز بعينيه الجاحظتين، ويرفع صوت التلفاز إلى أقصى ما تستطيع أذناه تحمله رغم معرفته بانزعاجي الشديد من صوت المعلق الرياضي، ومن صرخاته المفزعة التي يطلقها كلما أحرز أحدهم هدفًا.
غالبًا ما توقظني طائرات النظام مبكراً، رغم محاولاتي الجاهدة لتجاهل صوتها المزعج. أتقلب يميناً ويساراً، أعتصر عينيّ وأذنيّ. لكن دون جدوى.
أقفز فَزِعاً من نومي عندما تطلق الطائرة صواريخها، وأُصْدَم في كل مرّة عندما أرى شكلي في المرآة، فأكون أشبه بشخصية هربت للتو من فيلم "Saw" أو "Scream"... أفتح صنبور المياه، لا مياه كالعادة... من النادر أن تأتي المياه في مدينة أتعبها القصف مثل "حلب"، فكما تعلمون ضخ المياه يحتاج للكهرباء، والأخيرة لا نراها إلا في المناسبات بسبب الأعطال الدائمة في الشبكة.
على أيّة حال، من خلال جهود منظمات إنسانية، وأخرى خدمية مستقلة، تزورنا المياه كل 15 يومًا. إنه أمر يستحق الاحتفال حقًّا.
أتدبر أمري. فأغسل وجهي بمياه ادخرناها لمثل هذه الأوقات في أوانٍ تكدست في كل زاوية من زوايا المطبخ والحمام... في هذه الأثناء يكون صديقي "فادي" قد جهز كاميرته، وعدساته، فأذكّره بألا ينسى كارت الذاكرة، ونمضي بعد ذلك في طريقنا إلى الخروج من المنزل، ووجهتنا مركز الدفاع المدني.
يجب أن نتفق على أننا رغم الحرب، ورغم كل ما نمر به هنا من قتل وفوضى سلاح، لم نزل مثلكم...
تعرفوا على الحياة في حلب اليوم عبر عيون شاب من سكانها، وكلماته...الشارع مكتظ بالناس، لا يعير هؤلاء اهتماماً للموت الذي يتربص بهم قادماً من الأعلى، فكلٌ منهم منهمك في البحث عن رزقه، بينما لا تزال الطائرات تحوم في السماء. نستقل "التاكسي" - نعم لا تزال في حلب سيارات "تاكسي"! - وكعادته يجلس "فادي" في الأمام إلى جانب السائق، ويبدأ بسرد القصص الكثيرة التي لا أساس لها من الصحة على مسامعه لإضفاء جو لطيف على الطريق. لا أعير "فادي" و"السائق" اهتمامًا، ولا أصغي تقريباً لما يدور بينهما من حديث، إذ أكون شاردًا في تأمل الشوارع والمباني التي حُطِّمَتْ معظم نوافذها، وأرى أشجار الياسمين تتدلى على مداخل مباني حي سيف الدولة المكسوة بالنقوش المنحوتة بعناية فائقة، فتبث الروائح العطرية في نفسي شعورًا بالارتياح كفيلًا بجعلي متفائلًا بيوم جميل. إحدى أكثر الصور المغلوطة التي تتخيلونها عن سوريا أن كل ما فيها دمار، وأننا نعيش وسطه. صحيح أن هنالك مناطق محاها قصف طائرات نظام بشار الأسد، لكن الكثير من المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة الجيش الحر لم تزل مفعمة بالحياة. الفضل في ذلك طبعاً يعود لفرق الدفاع المدني، التي ترفع الأنقاض، وتعيد فتح الطرقات، لتجد الحياة قد عادت لطبيعتها في المنطقة نفسها التي قُصفت قبل ساعات... أعجوبة هي قدرة الناس هنا على التأقلم مع التحديات التي تفرضها الحياة. نصل أخيراً إلى مركز الدفاع المدني. نسيت إخباركم أن الطائرات لم تغادر الأجواء، لكن صوت السيارة قد طغى على كل شيء، فالسولار المكرر محليّاً بطرق بدائية جعل محركها أشبه بمطحنة حجر! "بيبرس" قائد فوج الدفاع المدني، كان ممسكاً بكومة من الأجهزة اللاسلكية، يتتبع من خلالها حركة الطائرات... من المفترض ألا يعطي الأوامر بانطلاق الفرق حتى يتأكد أن سماء المدينة قد باتت خالية من الطائرات، لكن هذه القاعدة كُسِرَتْ منذ دخول الطائرات الروسية سماء سوريا دعمًا لحليفها بشار الأسد. تحلق الطائرات الروسية على شكل سرب، يصل عدد طائراته في بعض الأحيان إلى عشر، ثم تبدأ بقصف المدينة وأريافها. 130 عنصرًا من الدفاع المدني قُتِلوا منذ اندلاع الثورة، وذلك يرجع إلى أنه في كثير من الأحيان تقصف طائرات النظام المكان نفسه بعد وصول فرق الإنقاذ إليه. وتتركز معظم عمليات سلاح الجو الروسي على "حلب"، فهي العاصمة الاقتصادية للبلاد، ومنذ يوليو 2012 يسيطر الجيش الحر على نحو نصف أحيائها، لكن الدعم الكبير من إيران وروسيا للنظام أدى لخسارة الجيش الحر -في الأشهر الأخيرة- للكثير من المناطق في شمال حلب. عمومًا، يعطي "بيبرس" الأوامر بالانطلاق، فنصعد أنا و"فادي" مع باقي العناصر على ظهر "البيك آب"، ويطير سائق "البيك آب" للوصول إلى المنطقة التي ينبعث منها الدخان الناتج من القصف. ويبدو أنه منبعث من حي المشهد. في هذه الأثناء يضبط "فادي" كاميرته، فتحة العدسة، والشتر، والآيزو. ولا ينسى أن يلتقط لنا صورة "سيلفي"، فربما تكون اللحظة الأخيرة في حياة أحدنا. عند اقترابنا أكثر من الدخان أدرك أن القصف قد استهدف ساحة المشهد، وهي مكان مكتظ بالناس، فيه الكثير من الباعة، وفيه تجمع لانطلاق سيارات النقل العام. لا أستطيع الرؤية سوى لأمتار قليلة أمامي، فالغبار يملأ المكان، لكن عناصر الدفاع المدني اختفوا بلمح البصر، باحثين عن جرحى أو عالقين، وراح "فادي" يوثق بعدسته كل ما يجري. سيارات الإسعاف تصل تباعًا، والأشلاء المتناثرة تملأ المكان، والناس ما زالوا في حالة من الصدمة، يحاولون استيعاب ما جرى. تمتزج رائحة البارود برائحة الدم، هذه الرائحة كفيلة بإعادة شريط المجازر التي حضرتها إلى ذاكرتي... فجأة يخرج أحد عناصر الدفاع المدني مضرجًا بالدماء من بين سحابة الغبار، حاملاً على كتفه طفلاً تتدلى يده وتتمايل يميناً ويساراً. تعلو صيحات الناس: "يا الله... يا الله"... بينما تلحق به امرأة يبدو أنها أم الطفل تريد أن تحضن ابنها للمرة الأخيرة. صرخات المرأة وآهاتها أذابت قلبي -على الرغم من اعتياده مثل هذه الصرخات- فانسابت دمعة من عينيّ لم أستطع حبسها. قُتِلَ هنا أكثر من 12 شخصاً، جميعهم مدنيون، والجرحى بالعشرات، هم من بين 185 ألف مدني قضوا منذ اندلاع الثورة بفعل قصف النظام وحلفائه، كل ذلك ليبقى بشار الأسد على كرسي الحكم، رافضًا مطالب شعبه بالحرية والعدالة، وقد تحولت في نهاية المطاف للمطالبة بإسقاطه. تغيب الشمس، فأعود أنا و"فادي" إلى المنزل، وفي الطريق لا يتفوه أيّ منا بكلمة واحدة، فكلانا سابح في بحر همومه. يااااه. المولّد الذي نشترك فيه مُعَطَّل، والكهرباء مقطوعة طبعًا، لكن لحسن الحظ لا يزال في البطارية شحنٌ يكفي حتى يرفع "فادي" صوره، ويريها للعالم. أما أنا فأجلس قبالة جهازي أدون لكم كلماتي هذه، وأتواصل عبر الإنترنت مع شتات أصدقائي وعائلتي في أصقاع الأرض... تتشابه أيامنا هنا في "حلب" إلى حد كبير، مجازر بشكل شبه يومي، تتقدم قوات النظام تارة وتتراجع تارة أخرى. أما التنديد الدولي بالمجازر فقد مللنا سماعه. هذا هو حالنا منذ نوفمبر 2013 عندما بدأ النظام تكثيف عملياته العسكريّة في حلب، لكن قبل أيام، في 7 يوليو تحديداً طرأ شيءٌ جديد، فقد تمكنت قوات النظام من حصارنا، أي حصار الأحياء الخاضعة لسيطرة الجيش الحر في حلب، وذلك لا يعني سوى شيء وحيد: الجوع. كيف سنتأقلم مع هذا الوضع؟ حقيقة لا أدري. لكن أعدكم بأن أخبركم عن ذلك لاحقاً. نشر الموضوع بالفرنسية على موقع L'orient le jour في 26 يوليو 2016.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع