في المدن الجديدة، على أطراف القاهرة، عوالم منعزلة، تبدو شديدة الانفصال عن الواقع المصري. الأسوار تحيط بالبيوت الشاهقة وجميع مظاهر الحياة الحديثة. هذه العوالم المنعزلة، يطلق عليها اسم "الكمباوندات" Compounds. وقد أُنشئت لتحقيق أقصى رفاهية وعزلة لطبقة الأثرياء التي فضلت الانسحاب من عمق القاهرة، الشديد الازدحام والصخب لتعيش حياة هادئة على الأطراف.
يوماً ما، سيصبح الكمباوند بأسواره العالية، وبواباته المحكمة والمؤمّنة بأحدث وسائل التكنولوجيا، الشكل المعماري الأكثر حضوراً وازدهاراً في مصر، بعد أن اندثرت الطرز المعمارية التي كانت تميّز القاهرة فصارت مدينة بلا ملامح، باستثناء وسط العاصمة الذي أُنقذ بحملة الترميمات الأخيرة.
الكمباوند: حياة آمنة، منفصلة عن الواقع
منذ ما يقرب العامين، تركت ريهام ود، 37 عاماً وأستاذة مادة الإعلام السياسي في جامعة القاهرة، شقتها في حي فيصل المزدحم لتعيش داخل أسوار كمباوند رامو، في مدينة 6 أكتوبر. تلك الحياة، تراها الأستاذة الجامعية، شديدة الاختلاف، والانفصال عن حياتها السابقة في عمق القاهرة، لكنها جيدة، بحسب ما ترى. وقالت ود لرصيف22 إن "السور" هو ما يُشكل الاختلافات الأساسية بين الحياة داخل الكمباوند، وخارجه، مشيرةً إلى أنه بمثابة حاجز نفسي منيع، يفرض العزلة، ويقلل من الاختلاط، والاحتكاك المباشر مع الشارع. وأضافت أن الأسوار تهدف إلى تحقيق أقصى حماية وعزلة لمَن يعيشون في الداخل، ومن ثم، "أعتقد أن نسبة كبيرة، ممَّن يعيشون داخل الكمباوند لا يشعرون بالأمان، ربما خائفون من شيء ما، أو مهددون بشكل أو بآخر". وتابعت: "لاحظتُ أن عدداً كبيراً من مسؤولي نظام مبارك جاؤوا ليعيشوا داخل الكمباوند. أعتقد أن الخوف هو محركهم الأساسي، هل من الممكن أن تعيش هذه الشخصيات في أحياء مزدحمة بالسكان؟ أو أماكن تفرض عليهم الاحتكاك المباشر مع الناس؟ لا أعتقد ذلك، هؤلاء انسحبوا جميعاً إلى الحياة داخل الأسوار، لأنهم مهددون وخائفون وهاربون من الجرائم التي ارتكبوها". رغم مساوئ الكمباوند التي تلخصها الأستاذة الجامعية في: العزلة، الانفصال عن الواقع، والشعور بالوحدة، إلا أنها ترصد الكثير من الإيجابيات التي تتمثل في: الحرية في ارتداء الملابس من دون التعرض للتحرش والمضايقات، النظافة، قلة المشاكل أو "الخناقات" بين سكان الكمباوند، الهدوء الشديد، المساحات الشاسعة التي من الممكن التجول فيها ليلاً دون مضايقة أحد.هدوء، حرية، واحترام للخصوصية
لا تتخيل نورا السيد، 32 عاماً وتعيش مع والدتها، حياتها خارج أسوار الكمباوند الذي، بحسب قولها، حقق لها الأمان والهدوء وعدم الاحتكاك المباشر مع الشارع. وقالت السيّد التي تعيش أيضاً في كمباوند "رامو" لرصيف22 إنها كلّما نظرت إلى السور والبوابة الحديدية ورجال الأمن المنتشرين أمامها، شعرت بالأمان، ومن ثم تستطيع الخروج والعودة في أي وقت، وارتداء ملابسها المتحررة التي يرفضها المجتمع. وسط المدينة بالنسبة للسيّد أصبحت منطقة نائية وبعيدة ومزدحمة بالناس، ومن ثم تكثر فيها التحرشات والمضايقات، وكل ذلك، وفقاً لقولها، ضد حريتها وإنسانيتها. وأضافت: "لست متفقة مع مَن يقولون إن الكمباوند تجسيد للنظام الرأسمالي، أو يؤدي إلى الفصل الطبقي ويعزز من التفاوت بين طبقات المجتمع، لأن هنالك الكثير من الأثرياء لا يعيشون داخل الكمباوند. هذا ليس صحيحاً". وتابعت: "الكمباوند يحافظ على إنسانيتي وحريتي. هنا لا أحد يعتدي على حرية أحد، لا أتعرض للتحرش مطلقاً، أو حتى المعاكسات. ثمة هدوء تحققه هذه الأسوار، ولكنها حياة باهظة الثمن. فعلى الرغم من التفاوت بين مستوى الكمباوندات، وبرغم أنني أعيش في كمباوند متواضع، إلا أنه في كل الحالات يمكن وصف الحياة هنا بأنها باهظة. فالأسعار مضاعفة، وأصحاب المحالّ يدركون جيداً المستوى المادي المرتفع لسكان الكمباوند، ومن ثم يرفعون من سعر بضائعهم بشكل مبالغ فيه، وبالطبع أنت مضطرة للشراء، وإلا كلّفك الأمر رحلة إلى وسط المدينة، أو أحد الأسواق الشعبية، وهنا لا توجد أسواق شعبية، فقط المولات، والهايبر".نزوح جماعي إلى المدن المنعزلة
بطبيعة الحال، لم نستطع اختراق أسوار كمباوند بيفري هيلز المنيع، فرجال الأمن لا يسمحون لك بالدخول إن لم تكن أحد الملاك أو أحد العاملين داخله، غير أن الروائي والباحث التاريخي محمود عبد الغني، كشف لنا بعض جوانب الحياة داخل "بيفري هيلز" الذي يتردد عليه باستمرار لتدريس التاريخ لبعض الطلبة، هنالك. كانت صدمة حقيقية، لصاحب "متحف النسيان"، عندما وجد أكثر من 15 كاميرا على البوابة الواحدة، هذا بالإضافة إلى عدد كبير من رجال الأمن الذين، بحسب قوله، فتشوه جيداً: أخذوا بطاقته الشخصية وكافة بياناته، وتأكدوا من سبب الزيارة، وبصعوبة أصبح داخل الأسوار التي توجد حولها أسوار أخرى، فبيفري هيلز هو تجمع لعدد من الفلل التي يحيط بها سور كبير، وحول كل فيلا سور آخر كما وصف الحال الباحث التاريخي. وقال عبد الغني لرصيف22 إن "الكمباوند حصاد اقتصادي للعشرين سنة الأخيرة في مصر والتي أدت إلى تراكم رأس المال في أيدي طبقة واحدة. وهذه الطبقة كانت تعيش غالباً بوسط المدينة، أو الزمالك، لكن هذه المناطق فقدت رونقها أمام إغراءات الكمباوند، ومن ثم حدث نزوح جماعي من جانب الأثرياء نحو الحياة داخل الكمباوندات التي تتركز في المدن الجديدة". وأضاف: "أعتقد أنه قريباً، سيخلو وسط العاصمة، أو المناطق الراقية، من الأثرياء، لأنها لم تعد تناسب مستواهم الاقتصادي أو المستوى الاجتماعي الذي يطمحون إليه". وأضاف أن الكمباوند يبدو كمدينة صغيرة، فبداخله المقاهي والمطاعم والمدارس الأجنبية والمولات وملاعب الغولف وحمامات السباحة، مشيراً إلى أنه تجسيد قوي للنظام الرأسمالي الذي يحكم العالم. ولاحظ الروائي الشاب إهمال الجانب الثقافي بشكل تام داخل الكمباوندات، إذ روى أنه لا وجود لمكتبة أو أي مركز ثقافي، مؤكداً أن ذلك يكرس عزلة هذه الطبقة عن الطبقات الأخرى، بل عن المجتمع المصري بشكل عام. واستطرد قائلاً إن الجيل الجديد الذي نشأ داخل الكمباوند لا يعرف شيئاً عن عشوائيات القاهرة، أو الفقراء والكادحين، لأنه لم يرَ غير المرفهين. اضطرت هانيا، 55 عاماً وتعيش وحدها، إلى ترك شقتها في حي الزمالك الراقي، بعد أن هجره الأقارب والأصدقاء، لتقيم بكمباوند "قطامية هايتس" في التجمع الخامس. لكنها باتت تشكو الوحدة والاحساس بالعزلة. أما أستاذ الفيزياء في مدارس رويال انترناشيونال للغات شريف السيد، الذي انتقل مؤخراً، مع زوجته وولديه إلى أحد كمباوندات مدينة الشيخ زايد، فرأى أن الكمباوند هو الحل الأمثل لحياة آمنة، بعيداً عن العاصمة المختنقة.حلّ جيّد لتوفير الأمن
تنحاز أستاذة علم الاجتماع الدكتورة عزة كريم إلى فكرة الكمباوند، بشكل تام، إذ تراه حلاً جيداً لتوفير الأمان للمصريين، وسط الأزمة الأمنية التي تفاقمت منذ ثورة 25 يناير، بحسب تعبيرها. وقالت لرصيف22: "يؤدي الكمباوند إلى توفير الإحساس بالأمان، من خلال الأسوار وشركات الأمن الخاصة التي تحافظ بشكل كبير على حياة السكان، كما يوفر علاقات اجتماعية صحية لأن سكان الكمباوند الواحد ينتمون إلى طبقات متقاربة، ومن ثم لا مجال للمشاكل". وأشارت إلى أن المشكلة الحقيقية في الكمباوند تكمن في ارتفاع سعر الوحدة السكنية، الأمر الذي يجعله متاحاً لطبقة الأثرياء فقط، ولذا اقترحت، أن تقوم الدولة بتعميم الشكل المعماري للكمباوند في المدن الجديدة.تطورات متتابعة
ولفت خبير البناء إسلام راغب إلى أن فكرة الكمباوند مرّت بمراحل كثيرة حتى وصلت إلى وضعها الحالي. وقال لرصيف22: المباني السكنية التي تحيط بها الأسوار ظهرت في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي قام بتأسيس المدن العمالية، أي التي يسكنها العمال فقط. وتابع: في عهد الرئيس أنور السادات تطورت فكرة المدن المنعزلة، عندما أنشأ مدينة 6 أكتوبر التي أخذت شكلاً معمارياً موحداً، وكان ذلك تمهيداً لظهور الكمباوند بالوضع الحالي. وأضاف أن الكمباوند بالشكل المتعارف عليه الآن بدأ في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وتحديداً في بداية التسعينيات من القرن الماضي، في الساحل الشمالي، وكان تابعاً للقطاع الحكومي. وفي عام 1997، أنشئ أول كمباوند للقطاع الخاص في مدينة الرحاب، وبعد ذلك كانت هنالك طفرة كبيرة في إنشاء الكمباوندات في مدينتي 6 أكتوبر، والشيخ زايد، والتجمع الخامس، وجميع المدن الجديدة. ومن أشهر الكمباوندات التي ذكرها راغب: "بالما هيلز" في 6 أكتوبر، وهو مدينة على الجبل بداخلها مجموعة من الفلل التي يسكنها رجال الأعمال والفنانون؛ بيفرلي هيلز ويأتي في المرتبة الثانية بعد بالما هيلز؛ وميدوز بارك؛ ورويال سيتي في مدينة الشيخ زايد؛ ثم كمباوند رامو بـ6 أكتوبر. وفي التجمع الخامس، يحتل كمباوند "قطامية هايتس" المركز الأول، ثم يأتي الميراج، وأربيلا. [caption id="attachment_64347" align="alignnone" width="700"] بالما هيلز[/caption] وذكر راغب أن سعر الشقة الواحدة في كمباوند متواضع لا يقل عن المليون ونصف المليون جنيه مصري (150 ألف دولار)، وهذا المبلغ يتصاعد ليصل إلى 15 مليون جنيه مصري (مليون ونصف المليون دولار) إذا تحدثنا عن فيلا في كمباوند مثل بالما هيلز. أما عن تكلفة الخدمات دخل الكمباوند، فذكر أن الكمباوند المتواضع تصل تكلفة خدماته، شهرياً، إلى 30 ألف جنيه مصري (3000 دولار) وتشمل النظافة والاهتمام بالحدائق وغيرها من الخدمات الأخرى، مضيفاً إلى أن هذا المبلغ يصل إلى أضعاف ذلك في الكمباوندات الأعلى سعراً. وذكر مثلاً أن تكلفة الخدمات في كمباوند مثل بيفرلي هيلز لا تقل عن 200 ألف جنيه (20 ألف دولار)، شهرياً.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com