تتميز اللغة العربية بقدرة هائلة على اختصار المعاني في تراكيب مجازية وصور بلاغية صارت تلازم المتكلّم العربي في شتى المجالات. ويُعتبر الخطاب السياسي العربي من أكثر الخطابات اليومية التي يكثر فيها الاعتماد على اللغة المجازية، وخاصة لتصوير مختلف أنواع الأزمات، حتى أن بعض هذه العبارات تقترن بشكل مباشر بالمجال السياسي ولا تكاد تُستخدم في غيره من المجالات.
عنق الزجاجة
هذه الصور البلاغية من أكثر الصور استخداماً في الخطاب السياسي العربي. وقد يعود ذلك إلى قدرتها على اختصار معاني التأزم والضيق والوضع الحرج، وهي معاني مصاحبة لجميع أنواع الأزمات.
يكفي أن نشبه وضعاً معيناً في بلد ما بالحديث عن "عنق الزجاجة"، حتى نفهم أن الأزمة التي يمر بها ذلك البلد متعددة الأشكال وتكاد تطول جميع مناحي الحياة. كما يصلح استخدام هذه الصورة في وصف كل وضع يتسم بالضيق ويحتاج إلى الانفراج، ولذلك نجدها متكررة بوتيرة كبيرة في المقالات الصحفية، والتحاليل الاقتصادية، ومنابر السياسة، ودراسات الاستشراف. وإذا ما استخدمت هذه الصورة في سياق الحديث عن أزمة مطوّلة، فهي عادة ما تحيل إلى لحظة معينة أو مرحلة محددة من عمر هذه الأزمة، وهي مرحلة العسر الشديد التي يُنتظر أن يعقبها انفراج نسبي.
انفجار الوضع
تُستخدم هذه الصورة البلاغية للدلالة على اندلاع تحرّك شعبي كبير قد يطيح بالنظام القائم. أو قد يحدث فوضى عارمة لا تُحمد عقباها. وعادة ما تُستخدم عبارة "انفجار الأوضاع" في سياق التحذير من مغبة السير في سياسة معينة أو عدم الاكتراث من وضع اجتماعي أو اقتصادي يتسم بالاحتقان الشديد.
تحمل العبارة في طياتها صورة "الانفجار" بما تعنيه هذه الكلمة من موت ودمار، ولذلك يكثر استخدامها في التحاليل التي تدعو إلى الشروع في تغيير معين، وليس في الكتابات التي تكتفي بتشخيص الأوضاع. فالقول بأن "الوضع الاجتماعي قابل للانفجار" يحمل في مضمونه دعوة ملحّة إلى تفادي النتيجة التي قد تحصل، وليس فقط الإشارة إلى مسببات هذه النتيجة. يكاد يكون استخدام هذه العبارة مقتصراً على الوضع الاجتماعي، وتصير متكررة بوتيرة أكبر في سياق الحديث عن التغيرات الاجتماعية الكبيرة التي قد تطرأ على مجتمع ما، بينما يندر استخدامها في غير ذلك من الأزمات، بحيث لا يُمكن الحديث عن "انفجار الوضع الاقتصادي أو المالي" على سبيل المثال.
لهيب الأسعار
تتكرّر هذه الصورة بشكل ملحوظ في المواضيع المتعلقة بالاقتصاد بشكل عام ومعيشة المواطن بشكل خاص، وتنطوي على مضمون قويّ يُلخص معاناة الناس من ارتفاع الأسعار وتدهور قدرتهم الشرائية.
تستمدّ هذه الصورة قوتها من عنصر "النار" وما قد ينتج عنها من أضرار جسيمة، وأحياناً تكون الإشارة إلى النار مباشرة مثل مقولة "الأسعار شعلت نار"، وأحياناً أخرى باستخدام عبارات مختلفة تنطوي على معاني الحرق مثل "اللهيب" أو "الاكتواء" التي تتكرر خاصة في اللهجات العامية.
وتركّز الصورة بشكل خاص على معنى عدم القدرة على التحمل، فمثلما أن الإنسان غير قادر على تحمل النار وما تتسبب فيه من حروق وآلام، فهو أيضاً غير قادر على مجابهة غلاء الأسعار والمعيشة، ولذلك فيها دعوة ضمنية إلى الرأفة بمن يكون في هذا الوضع الاقتصادي المتردي تماماً، كما تجدر الرأفة بمن يكون في خطر الاكتواء بالنار.
ناقوس الخطر
يُمكن استخدام هذه العبارة في مواضع متعددة للدلالة على خطر داهم يجب تفاديه، ويتكرر استخدامها عند التنبيه إلى إمكانية حدوث أزمة معينة في شتى المجالات، وخاصة في مجال الاقتصاد والمال. تقوم هذه الصورة البلاغية على معنى التحذير، وتكتسب مضمونها الدلالي من صورة بلاغية أخرى مشابهة لها وهي صورة "صفارات الإنذار" التي تُستخدم في حالة وجود خطر داهم قد يلحق أضراراً جسيمة بمنطقة ما.
مقارنة ببعض العبارات المجازية الأخرى المستخدمة لتصوير شتى أنواع الأزمات، مثل "لهيب الأسعار" أو "انفجار الوضع" المذكورة سابقاً، تعتبر عبارة "ناقوس الخطر" أقل ارتكازاً على معجم الأذى والألم، وقد يُفسر ذلك بأن استخدام هذه الصورة يكون متكرراً بشكل أكبر في الوضعيات التي يكون فيها شخص أو مجتمع ما إزاء خطر معيّن، مازالت توجد إمكانية لتفاديه. فالحديث عن ناقوس الخطر في مجال الاقتصاد، على سبيل المثال، قد يحمل في طياته تحذيراً من تدهور الأوضاع، ولكنه أيضاً يحمل إقراراً ضمنياً بإمكانية تفادي الكارثة، ولذلك تنقص الحاجة إلى معجم الأذى الشديد.
النفق المظلم
يتواتر استخدام هذه العبارة في التحاليل والمواقف التي تستشرف المستقبل، والتي تنطوي على شحنة هائلة من التشاؤم إزاء ما سيحصل في بلد أو مجتمع ما. وتقوم الصورة على تشبيه هذا المستقبل المنظور بالسير في نفق طويل ومظلم، وما قد ينتج عن ذلك من تيه وضياع وخطر. وتستمدّ هذه الصورة قتامتها من صفة "المظلم" التي تتضمنها، وهي صفة تنفي إمكانية الانفراج في المستقبل القريب، وفيها دلالة على أن أمل الخلاص مازال بعيداً جداً، لأن بصيص النور الذي قد ينبثق عن الطرف الآخر من النفق غير مرئي بعد. ومن حيث السياق، لا يقتصر استخدام هذه الصورة على مجال دون آخر، بل يمكن استخدامها في العديد من المواضيع، ولكنها تصير متكررة بشكل أكبر في المواضيع الاقتصادية والجتماعية.
يوجد في اللغة العربية العديد من الاستعارات والصور البلاغية المتواترة بشكل كبير في أحاديث السياسة والمجتمع بشكل عام، ومنها "خارطة الطريق" و"صنع القرار" و"شن الهجوم" وغيرها من التراكيب الجاهزة التي صارت تطبع خطابنا السياسي العربي. ولكن إذا دققنا الملاحظة، يُمكن أن نخلص إلى أن الصور البلاغية المستخدمة عند الحديث عن الأزمات السياسية هي الأبرز من حيث العدد والتنوع، ولعل في ذلك انعكاساً مباشراً لكثرة وتنوع الأزمات التي يعيشها العالم العربي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...