في قلب ميدان التحرير الذي شهد ثورة 25 يناير، تقع الدرعة الحامية والمنقذة للثوار. هي كنيسة قصر الدوبارة الإنجيلية التي فتحت أبوابها أثناء الثورة لتحتضن الشباب المصابين وتداوي جراحهم بدون تفرقه أو تمييز. والآن، تخرج مجدداً من خلف أسوارها لتشارك المسلمين في فرحتهم بشهر رمضان حول مائدة "المحبّة الوطنية".
خلال الثورة، احتلت كنيسة قصر الدوبارة منزلة كبيرة في قلوب معظم المصريين. وفي رمضان الحالي، قرّرت إقامة مائدة إفطار للصائمين وعابري السبيل والمساكين، وذلك يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع.
استنفار لخدمة الصائمين
في الساعة الخامسة، وعلى إيقاع أغاني رمضان التي تضفي جواً من البهجة، يبدأ متطوعو الكنيسة بتجهيز الطاولات والكراسي خارج الكنيسة التي يحرسها رجال الأمن مثل باقي الكنائس. يقفون جميعاً على أهبة الاستعداد في انتظار وصول الطعام لتعبئته وتقديمه للصائمين. ولكي لا يمرّ الوقت ببطء، يقومون بالترفيه عن أنفسهم بالتقاط الصور والرقص على نغمات الأغاني الرمضانية. ويستقبلون ضيوفهم وعلى وجوههم ابتسامه ترحّب بالجميع. تمام الساعة الخامسة والنصف، يصل الطعام بواسطة سيّارة. يسارع الشباب إليها وينزلون ما تحمّله. ويبدأ قائد الفريق بتوزيع الأدوار على المتطوّعين ليتحوّلوا إلى خلية من النحل تعمل بشكل سريع ونظامي. فهناك مجموعة مسؤولة عن استقبال الناس وهناك مَن يقف على الطريق ويشير إلى أصحاب السيارات المارة في شارع القصر العيني وسائقي التاكسي ويقول لكل منهم: "اركن واتفضل معانا". بعض السائقين يستجيبون للدعوة، وبعضهم الآخر يطلب وجبته، فيقوم شاب بإحضارها إليه داخل سيارته. وهنالك مجموعة تهتم بوضع أكواب المياه على الطاولات، وأخرى تهتم بتوزيع علب العصير عليها. أما الفتيات فمعظمهنّ حول المائده لتعبئة الأطباق بالأرز والملوخية والدجاج المشوي والخبز والسلطات، بمساعدة بعض الشباب. وقبل ارتفاع أذان المغرب بدقائق يوزع الشباب علب الطعام على الضيوف من المسلمين والمسيحيين الذين أتوا ليشاركوا المسلمين في إفطارهم. وقالت آمال موريس، ربّة منزل ومتطوعة يومي الجمعه والسبت لخدمة المائدة طوال شهر رمضان، لرصيف22: "أنا سعيده جداً. شعوري لا يمكن وصفه. خمس سنوات وأنا أقوم على خدمة الصائمين وأشعر بالسعادة عندما أراهم فرحين بالطعام ويتناولونه في جو مليء بالحب والسعادة. فهنا لا نرى أيّة تفرقه بين مسلم ومسيحي". وأضافت: "أصبح لدينا ضيوف من إخوتنا المسلمين يأتون بشكل دائم لأنهم أحبوا المائدة وتقبلوا وجودنا. ولذلك، فإن معظم الضيوف ليسوا من عابري السبيل". وقالت ليلى، 28 عاماً وتعمل في إحدى الشركات وقرّرت التطوّع مع فريق الكنيسة "إن خدمة التطوع في الكنيسة مفتوحة على مدار السنة. فهنالك أنشطة اجتماعية أخرى غير المائدة الرمضانية. إذ نوزّع صناديق من الطعام في قرى مختلفة من محافظات مصر مثل الصعيد ومناطق وجه قبلي". وتابعت: "أساعد في تقديم وجبة الإفطار على مائدة "المحبة الوطنية" منذ خمس سنوات، ولن أتخلى عن ذلك. سأستمر في خدمة إخوتنا المسلمين. فأنا أيضاً أحب رمضان، وأحياناً يأتي شباب مسلمون لمساعدتنا في تحضير المائدة". وروت ليلى قصة طريفة حدثت معها أثناء تعبئة الأطباق، فأول مرة قدّموا فيها الملوخية، لم يعرفوا كيف يتعاملون معها لأنها سائلة وغير متماسكة. فكانت تقع منهم وكانوا يضحكون "ومحدش عارف يغرف الملوخيه وبهدلنا الدنيا ونصها وقع مننا".العيش والملح قادران على إذابه أي خلاف
برأي محسن كامل، خادم في الكنيسة وقائد فريق المتطوّعين ويعمل صباحاً مديراً في شركة خاصة: "العيش (الخبز) والملح قادران على إذابة أي خلاف وتوطيد العلاقات وروح المحبة بيننا. فالكنيسة كان لها دور هام في الثورة وقررت أن تخرج خدماتها من خلف الجدران إلى المجتمع والشارع المصري لننقل محبة مسيحيي قصر الدوبارة إلى الجميع ونرسل رسالة إلى العالم تؤكد أننا شعب واحد". وأضاف: "ليس كل مَن يأتي إلى المائدة محتاجاً. كثيرون يأتون ليشاركوننا في الطعام لانهم أحبّوا الأجواء التي نبعت من روح الحب وعمَل الخير الموجود في نفوس الشباب المتطوعين". وأضاف أن تجهيز المائدة يبدأ قبل شهر رمضان بشهرين على الأقل فـ"نقوم بالاتفاق مع أحد المطاعم ذات الجودة الجيدة لأننا لا نمتلك إمكانات للطبخ داخل الكنيسة. ونعلق لافتة كبيرة على مدخل الشارع ونجهز الكراسي والطاولات اللازمة للمائدة". علماً أن الشيخ فوزي وهيب، ولقب الشيخ يعني أنه واحد من المسؤولين عن الاجتماعات داخل الكنيسة، هو مؤسس فكرة "مائدة المحبة الوطنية". وقال وهيب، وهو أيضاً أستاذ علم اجتماع، لرصيف22 إن فكرة مائدة المحبة الوطنية عمرها خمس سنوات. وروى أنه "في عام 2011 كان قائماً اعتصام يوليو الذي صودف في شهر رمضان، وكان العديد من الشباب والناس معتصمين، فقدّمنا لهم أكواب المياه الباردة مثلما قال السيد المسيح. ثم فكرنا بأن أكواب المياه ليست كافية فقدمنا بجانبها بلحاً وعصائر وبعض الطعام، وكنا نضع ذلك على طاولة أمام بوابة الكنيسة. ومن هنا بدأت الفكرة ووسّعناها من مائدة واحدة إلى عدة موائد وبكميات طعام أكثر". واعتبر أن "تقديم الطعام لـ200 أو 250 فرداً هو أمر رمزي يحمل بداخله الكثير من الرسائل ومشاعر المحبة. فهو رسالة إلى كل مسلم نقول له فيها: نحن نحبك في صيامك ونريد أن نشاركك في فرحتك برمضان، وهو رسالة إلى العالم، رسالة سلام تقول إن هنالك تعايشاً بين المسلمين والمسيحين وهو مستمر منذ ألف وأربعمئة سنة وسيظل إلى نهاية العالم". وشرح وهيب أن قصر الدوبارة يقوم بخدمات تطوّعية أخرى. "فلدينا مركز لتأهيل المدمنين من المسلمين والمسيحين ونقدّم مساعدات غذائية إلى كل محتاج من خلال ما نسمّيه ببنك الطعام. وهدفنا هو أن تخدم الكنيسه شعب مصر". وتذكّر الشيخ فوزي، وهو يضحك، أنه أحياناً يدخل شخص إلى المائدة فنسرع إلى خدمته بلهفة لأنه صائم. ولكن بمجرد وضع الطعام أمامه وقبل إطلاق المدفع نجده قد بدأ بتناوله. فنضحك ونعرف أنه مسيحي وليس مسلماً". مصطفي فرحات، 50 عاماً، كان واحداً من الحاضرين حول مائدة المحبة الوطنية. وقال رصيف22: "نحن نسيج واحد والكل يراعي الآخر. وهذه الكنيسة بالتحديد لها فضل علي، فبفضلها ما زلت على قيد الحياة"، لافتاً إلى أنه أصيب في أحداث مجلس الوزراء عام 2011 برصاص وتم إسعافه داخل مستشفى الكنيسة. حين يُرفع أذان المغرب، يبدأ الجميع بتناول الطعام. يصطفون مسلمين ومسيحين ويقوم خدامو الكنيسة بتلبية طلباتهم أثناء تناول الأفطار.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...