عندما كنت أتابع التظاهرات الحمصية المسائية في بدايات الثورة السورية، لم أكن أشعر أنّي أشاهد تظاهرات أو حراكاً احتجاجياً بقدر ما أشاهد جماهير نادي الكرامة في واحدة من احتفالياتها الشهيرة خلف أحد اللاعبين الشباب، عبد الباسط الساروت.
"كرامة" الفرح
الرقص والأهازيج والعراضات الحمصية والتناسق في الحركات والهتافات كانت كلها أدوات المشجعين الحماصنة لسنوات عديدة مضت. أتقنوها حتى جعلت منهم كابوساً للفرق المنافسة التي تزور المدينة. وبات من الصعب التغلب على النادي الحمصي، محلياً وآسيوياً، على أرضه وبين جماهيره. بالنسبة للحماصنة، لم يكن "الكرامة" مجرد نادٍ لكرة القدم، بل كان جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية في حمص. الحديث عن المباراة المقبلة ومفاتيح الفوز فيها، إلى تحليل المباراة السابقة وشتم الحكم أو الواسطة التي يتمتع بها الفريق المنافس، أو توقع المدرب الجديد للنادي. وكانت جريدتا الاتحاد الرياضي والموقف الرياضي تحققان مبيعات هائلة بعد ساعات على صدورهما نهار السبت. يوم الجمعة كان يوماً احتفالياً بامتياز في حارتنا. يبدأ أبناء الحي منذ الصباح في التحضير لذهابهم إلى الملعب البلدي. يأتي كل شخص بشيء محدد. الطبل، الأعلام، وسيلة النقل... تبدأ الاحتفالات السيّارة. وفي أثناء ذلك، يبدأ رجال الحارة بالذهاب إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة مرتدين أبهى حللهم. وما إن تنتهي الصلاة حتى يتوجّه معظم المصلين إلى الملعب البلدي. البعض كان يفضّل الصلاة في مسجد عمر القريب من الملعب. هكذا يتمكّنون من الدخول باكراً واختيار أفضل الأماكن المتاحة حيث أن الجماهير من غير المصلين كانت أول مَن تدخل إلى الملعب، وتستحوذ على أفضل الأماكن. منذ لحظة دخولهم إلى الملعب وحتى لحظة وصولهم إلى بيوتهم، لا يتوقف المشجعون عن الهتاف والرقص متحرّرين من كل شيء إلا من الفرح. كان هتاف الملعب يصل إلى شارع الدبلان القريب من ساحة الساعة الجديدة، في وقت تسمع أصوات التلفاز أو الراديو (إن لم تكن المباراة منقولة على التلفاز) تخرج من النوافذ وتصاحبها الشتائم أو هتافات التشجيع بين الفينة والأخرى. "إذا بدك تسرق بيت بحمص، لازم تسرقه وقت المباراة. البيوت كلها فاضية، والبيت اللي مش فاضي بكون صاحبه مشغول بالمباراة"، لطالما رددت أمي البيروتية هذا الكلام في أيام الجمعة بينما أنا في الملعب ووالدي متمدّد في البيت يستمع إلى المباراة. أربع أو خمس ساعات يعيش الحماصنة خلالها كل ما يعرفونه من أحاسيس قبل أن يعودوا إلى حياتهم اليومية لباقي الأسبوع. وحالما تنتهي المباراة، نبدأ بانتظار المباراة القادمة وتحليلها والتحضير لخطة التشجيع التي سنشارك فيها مع رابطة المشجعين. كانت كرة القدم المتنفس الوحيد لشباب أحياء حمص القديمة بالإضافة إلى الساقية المتفرعة عن نهر العاصي والتي يغرق فيها أشخاص عدّة سنوياً."كرامة" آل الأسد
حاول النظام استغلال هذه العلاقة بين فريق الكرامة والحماصنة. صور آل الأسد كانت معلّقة في كل مكان، في مدخل النادي وعلى المدرجات وداخل الغرف. وعام 2006، أتى بشار الأسد إلى حمص لمشاهدة المباراة النهائية لدوري أبطال آسيا في حمص وكانت تجمع الكرامة وفريقاً من كوريا الجنوبية. كان النظام محاصراً بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري آنذاك وكان الإعلام السوري يروّج للهجمة الكونية على سوريا، مردداً شعار "سوريا الله حاميها" المتماشي مع الموروث الشعبي في سوريا، فانتشر هذا الشعار بسرعة هائلة. وحرص النظام على أن تمتلئ المدرّجات خلال هذه المباراة التي حضرها الأسد وهتف له أكثر من أربعين ألف مشجع حمصي، بعد مقدمة شعرية ملحمية عن اللحمة بين القائد والجماهير، كان المعلق في الملعب يتلوها متأثراً لدرجة تشعر فيها بأنك ستبكي. بعد خمس سنوات على هذه الزيارة، تراجع الحماصنة عن تلك الهتافات وبدأوا للمرة الأولى في تاريخهم بالمطالبة بإسقاط بشار الأسد بالاسم، بعدما فتح الأمن النار على متظاهري حارة باب السباع."كرامة" الثورة
قدّم جمهور الكرامة أبهى صور عن التظاهرات خلال الثورة عبر حلقات الرقص التي كانت ترافق صوت الساروت (حارس مرمى شباب الكرامة). تغيّر نوع الشغف والفرح والحزن وكلمات الأهازيج لكن الشكل بقي كما هو. استفاد هؤلاء من التنظيم الذي اعتادوه لسنوات على المدرجات في الهتاف والرقص والأهازيج، ويكفي أن نتابع بعض الفيديوهات القليلة على يوتيوب لهذه الجماهير لنتأكد من ذلك.أذكر في أحد الاتصالات مع أولاد عمي في الخالدية أنّي سألتهم عن التظاهرات المسائية في الحارة وتنظيمها فكان الجواب باللهجة الحمصية: "خيو هدول هني جماعة الملعب ما غيرهم"، بمعنى أن شباب الحي الذين يوكل إليهم تحضير العدة للمباراة من تأمين الأعلام والطبل ووسيلة لنقل الركاب وحتى "البزر" والسندويشات، باتوا مسؤولين عن تأمين مستلزمات التظاهرات والتحضير لها. هؤلاء أيضاً نقلوا هتافات الملعب والتناغم في الرقص والتصفيق والهتاف إلى ميادين التظاهر. كنت أشاهد "المسائيات" على شاشة الكمبيوتر وأنا أتذكر الملعب البلدي الذي يستحوذ على الحيّز الأكبر من ذاكرتي في حمص التي غادرتها قبل أحد عشر عاماً. كنت أسمع الهتافات وأنا أتذكر كيف كنت أرددها على المدرجات، مثل هتاف منصورين بعون الله. فهذا الهتاف سمعته مجدداً، ولكن في تظاهرات حي الخالدية. كذلك تذكرت كيف كنت أردد مع جماهير الكرامة أغنية مريم مريمتي وعيني مريمَ... والكأس مجروح بده الكرامة. فهذه الأغنية حوّلها المتظاهرون إلى مريم مريمتي عيني مريمَ… والقلب مجروح بده كرامة. هو فارق بسيط. "الكرامة" في الأغنية الأساسية كانت تدلّ على النادي، وفي الثانية صارت تدل على كرامة الناس التي سلبتها مهم دولة الأمن. نال الحصار والقصف من عاصمة الثورة. استطاع النظام تحويلها إلى معتقل كبير. مدخل واحد عند باب كل حارة صار يخضع الداخلون والخارجون منه للتفتيش الدقيق وقد يعتقل أحدهم لأتفه الأسباب، ما جعل الناس تحاول البقاء في حاراتها وعدم الخروج منها إلا للضرورة. ولا يزال حي الوعر تحت حصار مطبق ومعزولاً عن محيطه بهدف اخضاعه باعتباره آخر الأحياء الحمصية الخارجة عن سيطرة النظام. بات الملعب البلدي ومقر النادي أقرب إلى الثكنة العسكرية. وكان قد تحوّل قبل ذلك، في إحدى فترات الثورة، إلى معتقل. استشهد عدد من لاعبي الفريق وبعضهم اعتقل بينما هاجر آخرون بحثاً عن الأمان. تدمر حي الخالدية وغادرت الأعلام الزرقاء والبرتقالية شوارع حمص. أما الجمهور فبعضه لا يزال محاصراً في الوعر أو معتقلاً لدى الأمن وآخرون تفرقوا داخل سوريا وخارجها.مريم مريمتي وعيني مريمَ... والكأس مجروح بده الكرامة...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين