"سأقضي عليكم ولو كان هذا آخر عمل في حياتي". عبارة حفرت في رؤوس أجيال كثيرة شاهدت المسلسل الكرتوني الأبرز "السنافر"، بنسخته المدبلجة إلى العربية. كان هذا حلم شرشبيل، عدوّ "السنافر" الدائم، المشعوذ الشرير الذي يعيش في قلعة مهجورة برفقة قطه "هرهور"، الأحمر المشاكس. طوال حياته جهد شرشبيل من أجل القبض على السنافر لاعتقاده بامكانية تحويلهم إلى ذهب، أو التهامهم لامتلاك قوى سحرية.
مناسبة الكلام عن شرشبيل هنا هي وفاة الرجل الذي أدى دوره بالنسخة العربية، الممثل اللبناني جوزف نانو. كثر تشربوا صوت نانو وباتوا لا يميزونه عن شرشبيل، لكن قلة عرفت الشخصية الحقيقية لممثل شارك في العديد من الأدوار في الرسوم المتحركة وفي المسلسلات والأفلام اللبنانية. طبعت معظم أدوار نانو، الذي توفي في السويد عن عمر يناهز الثمانين، بنزعة شريرة تناقض شخصيته الحقيقية التي يشهد كل من عرفوه بطيبتها وظرافتها. هي هنا قدرة الممثل الحقيقي على الإقناع والتأثير.
كان لصوت نانو القدرة على إضفاء السحر على كل الشخصيات، فهل يمكن تخيل شرشبيل أو حتى "السنافر" من دون ذلك الصوت الذي "يلعلع" تهديداً أو يضحك شماتة، أو هل يمكن للحماسة نفسها أن تكون مع كل أرض يزورها سندباد أو ينطلق بها "ساسوكي"؟
لم يسمح نانو للأضواء أن تحيط به، فضل البقاء في ملعبه الأحب. كان محبوباً دون جهد، وشريراً دون جهد كذلك. فله تترك أكثر المشاهد تعقيداً وإرباكاً، صلابته تعزز حضور الشر كمحرك لأي عمل درامي، ومنها يكتسب الخير معناه، لا العكس.
اللافت في بدايات نانو أنه اكتشف موهبته الصوتية عبر صوت كلب، حينها كانت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" تنظم مسابقة للتقليد. فقلّد صوت كلب وفاز بالجائزة التي كانت قيمتها 2 جنيه استرليني. جائزته الحقيقية حينذاك كانت اكتشاف قدراته التمثيلية ودخول عالم الإذاعة المتنوع. وهكذا تنقل نانو بين الإذاعة والمسرح والتلفزيون والسينما، وترك وراءه 2000 حلقة تلفزيونية و50 فيلماً و24 عملاً مسرحياً.
كل خسارة يتركها فنان بهذا الحجم، تفتح المجال أمام مخاوف كثيرة على مستقبل العمل في مجال التمثيل والتقليد، الذي بات الاستسهال عنوانه، وكأن موت فنانين على هذا المستوى، ولو غابوا منذ فترة عن الساحة، يجعل واقع اليوم، بممثليه ومخرجيه ومنتجيه، أكثر فداحة.
على خط آخر، يعيد موت نانو تسليط الضوء على شخصية شرشبيل، التي تتواجه من خلالها ثنائية الشر المتمثلة بالقوى الحاكمة، أو المدفوعة من جهات مؤذية تستخدم غباء شرشبيل، في وجه الخير المتمثل بـ"السنافر"، تلك المخلوقات الزرقاء الضعيفة. هذه الثنائية التي حاكت لعقود طويلة عقول أطفال تعاطفوا مع "السنافر" في كل مرة، ضد الشر الذي قدم في قالب شخصية شرشبيل الظريفة والغبية. منذ العام 1958، تاريخ ولادة هذه الشخصية على يد الرسام بيار كوليفورد في بلجيكا، ثم انتقالها على يد ويليام حنا وجوزيف باربيرا، مخترعَيْ توم أند جيري، إلى عالم التلفزيون في العام 1981 على "قناة أن بي سي"، تغيّر وجه الشر كثيراً، من تلك الشخصية الظريفة الغبية إلى تلك الشخصية المدمرة والحذقة. حصل ذلك في العالم الواقعي بالتوازي مع حصوله في عالم الكرتون، حتى ذلك الموجه لصغار السنّ. الشر لم يعد ظريفاً، والسنافر باتوا كثراً يفتقدون أهم عناصر قوتهم: الألفة وتجاوز الفروق في أوقات الأزمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت