في البدء اعتقدنا – كسعوديين – أن علينا الكثير من معالجة سوء الفهم فيما يتعلق بما يروّجه الإعلام غير العربي، ثم مع وسائل التواصل الإلكتروني اكتشفنا أننا بحاجة للتوضيح للعرب أيضاً، وكانت المفاجأة أن حتى بعض الخليجيين الذين يشاركوننا غالبية الظروف لم يسلموا من سوء الفهم أيضاً، وكل ذلك مفهوم ومبرر، وله أسبابه المنطقية. السعوديون أنفسهم يعيشون حالة دائمة من محاولة لفهم " يا إلهي! ما الذي يحدث هنا؟ أخبرني من فضلك!". فلكي تفهم الحياة في السعودية عليك أن تكون مستعداً لتلقي كومةً من المشاهد والصور، لا تحاول أن تصنع منها فيلماً محبوكاً متوقّع النهاية، نحن ليس لدينا سينما في كل الأحوال، إنما حاول أن تصنع معرضاً صوريّاً حديثاً يبدأ بلوحة لبيكاسو وغرافيتي لبانسكي وينتهي بالموناليزا، وكن مستعداً لرؤية كاريكاتير، إنّك تخسر فرصتك تماماً في الحكم المطلق على معرضٍ كهذا، صدقني.. تخسر، جرّب حلا آخر. السعودية بحسب الإعلام غير العربي، مجرد مارد نفطي وصورة امرأة سحلها رجل هيئة، بالنسبة للعرب غير الخليجيين مجرد مشروعات وشوارع تحمل أسماء الملوك وسيّاح وفرصة ذهبية للحصول على عقد عمل، بالنسبة للخليجيين هم السبب الأول في قفل حجوزات الفنادق يطالبون وزير التعليم بإجازة من المدارس لسوء الأحوال الجوية، وعندما يوافق يقضون تلك الإجازة في دبي دون قلق من خطورة الأجواء، ومؤخراً فالسعودية هي اللاعب الأساسيّ إن لم يكن الوحيد في السياسة الخليجية الخارجيّة وهذا أمر له تبعاته في إعادة تشكيل الصورة السعودية في أذهان الخليجيين. السعوديون الآن هم – فوق كل ما سبق – أولئك الذين تحرّك بلادُهم بلدان الخليج نحو خيارات خارج الخيارات التي اعتادوها، اتفاقات أمنية وإعلان حالة حرب، ونحن – كأفراد سعوديين- علينا تحمّل جميع الاسقاطات التي تُحدثها هذه التصورات، والمهم الآن أنني سأحاول مساعدتك لفهم كل ذلك، ربما ستحتاج إلى أن تطلب قهوتك الآن:
الحالة القانونية
إحدى أهم سمات الحالة القانونية السعودية التي ترتبط بالأحوال الشخصية هي المساحة العريضة الممنوحة لتقارير القُضاة، هناك مرجعية فقهية تفضّل الجهات الرسمية الترويج لها باعتبارها مرجعية حنبلية، بينما في الواقع يستطيع القاضي التحرّك في المذاهب الأخرى ومخالفة المذهب الرسمي، وفي أحيان عديدة يتم حض القضاة على ذلك، خاصة عندما لا تكون ترجيحات المذهب وجيهة أو لا تتسق مع الرؤية التجديدة، وهذا أمر له ميزته، لكنه أيضاً سيجعلك حائراً وستُفاجأ في بعض الأحيان من المدى الذي قد يصل إليه حكم القاضي إما تساهلاً وإما تشدداً! وغالباً ما تحاول السعودية تصحيح هذه الأحكام عبر محاكم الاستئناف، وهذا أمر مرهق، أنت الآن تفهم لماذا قبل مدة قرأت خبراً لقاضٍ حكم بتفريق زوجين لعدم الكفاءة في النسب – وفق المذهب- ولماذا تم الانتفاض عليه من قبل الرأي العام السعودي والذي تبعه فوراً بيان توضيحي من وزارة العدل لا يتفق مع رؤية القاضي، ونفت هذا النوع من الأحكام بالمطلق، بل قامت الوزارة بتصعيد الموقف وحذفت من موقعها الرسمي خانة تقديم دعوى فسخ النكاح لعدم الكفاءة في النسب. غالباً ما ستقدم لك وسائل الإعلام المشهد الأول فقط من القضية دون السياق الذي يفسرها، سبق وأثيرت قضايا مماثلة ولا تصل في بعض الأحيان إلى هذا المستوى من التصعيد الرسمي، يعرف السعوديون أنه من المهم أن يحافظوا على وتيرة من التعبير عن الرأي العام، للوصول إلى هذا النوع من التأثير الإصلاحي. أحد أهم الإصلاحات التي يطالب بها القانونيون هو التقنين بحيث يتم تقليص مساحة اجتهاد القضاة، بما يقلّص المسافة بين الحياة اليومية للسعوديين وبين الرؤية التجديدية للحكومة والتي يجسّرها سلك القضاء.الحالة الاجتماعية
وأنت ترى مقطعاً لرجل يهدد فتاة لأنها كشفت وجهها، تكاد لا تصدق أنه يمكنك الخروج في موعد معلن مع فتاة تكشف شعرها بالكامل بعباءة مفتوحة دون أن يعترضك أحد في مدينة أخرى، وأنت ترى مقطعاً متداولاً لرجل هيئة يطرد شاباً في احتفالية الجنادرية الرسمية لأنه يرقص أو يطرد امرأة لأنها تغني، لن تتوقع أنك لو كنت مهتماً بالفنون فسيمكنك حضور معارض فنية لا مكان فيها للفصل بين الجنسين ولا للحجاب التقليدي كما أن قطاع الأزياء وعروضه واعد ومزدهر (يمكنك متابعة حساب: هنا آرت، للتغطيات)، وفي حين سيتم تصوير عدد من المحتسبين العدوانيين وهم يعترضون ندوة أدبية ويحاولون إيقافها، لن ترى تصويراً للمئات من الأحداث الأدبية السنوية التي تسير بدون اعتراض، كما أنك،ستقرأ مقالاً عن سوء الحياة الجامعية للفتيات ولن تتعرف على الجامعات الآخرى التي لا تُلزم فيها الطالبات بأي زيّ مثلاً، كما لن تتعرف على الجامعات الأهلية التي لديها فُرُق رياضية تشارك عالمياً، أو على جامعة حكومية مختلطة للدراسات العليا. كما أن سواقة المرأة ساحة عراك كبيرة بينما تسوق المرأة البدوية في القرى لشؤون الرعي ولإيصال بناتها إلى المدارس تحت حماية الحكومة! ما أودّ قوله أن اختزال الحياة السعودية الاجتماعية في عدة مقاطع تم تصويرها بجوال وجرى ترويجها إعلامياً، هو جزء من الحياة السعودية نعم، لكنه ليس النمط الوحيد، فالسعودية بجغرافيتها المترامية وبمناطقها الثلاث عشرة وفي ظل قانون غير منضبط كما سبق توضيحه، كل ذلك يشكل بيئة خصبة لتشكيل كُتل ثقافية – إن صح التعبير – بحيث كل كُتلة لها حدودها المكانية والثقافية والتي لا تختلط كثيرا بعضها ببعض إلا بمستوى غير مؤثر في بُنيتها، أي فقط في مستوى التعامل ومشاركة المصالح لا الانتماء، وحتى هذه الكُتل دائمة التشكّل والنمو، إنك حتى لا تستطيع تصنيفها عرقياً بحسب العوائل، فكثير من العوائل تهاجر إلى كُتلة ثقافية أخرى، تتزاوج معها وتسكن بينها، النمط الشرقي مثلاً بتلاصقه مع دول الخليج يميل لتكوين كتلة ثقافية متمايزة، النمط النجدي بانحصاره جغرافياً بين عدة صحارٍ يحتفظ بكتلته الثقافية الدائمة التشكل باحتضانها للعاصمة، النمط الحجازي المنحصر بين جبال السراة بعراقته واحتضانه لجولات من جميع جنسيات العالم على مدار العام (الحج والعمرة والميناء الساحلي والمدن الاقتصادية) إلى غير ذلك من النمط الشمالي أو الجنوبي. كل كُتلة ثقافية تحاول التعبير عن تمايزها، وكثيراً ما تحاول اعتبار هذا التمايز عنواناً للهوية السعودية دون الكتلة الأخرى! من المهم ملاحظة أن هذه الكُتل تُعزل جغرافيا بجبال عنيدة أو صحارٍ قاسية في ظل شبكة مواصلات مُكلفة، وفُرص تزاوج مقيدة بسلطة القانون والمجتمع، الحكومة نفسها تقدم كتلة ثقافية أخرى، هي "كُتلة الاستثناءات" متمثلة بالمُدن البترولية ونمط الحياة المنفتح فيها، أو بعض المشاريع وبعض المعارض الخاصة وهي كتلة متاحة لنسبة محدودة من المجتمع. تحاول الحكومة السعودية باستمرار تقديم صيغة لهوية وطنية مشتركة، وقد كان للتعرض الأخير لأزمة الإرهاب أثر جيد في إعلاء المشتركات الثقافية الوطنية فوق هذه الكُتل. يحاول عدد من المثقفين تقديم معالجات تتم من خلالها الاستفادة من التنوع الثقافي ومحاولة الإجابة على سؤال: ما الذي يعنيه أن تكون سعودياً؟! ويرى عدد من السعوديين أن وضوح التنظيم القانوني ضروري في حماية هذا التنوع عبر قوانين تُجرّم العنصرية بين الكُتل الثقافية والعرقية والمذهبية مثلاً، وتجرّم التعدي على حرياتها، مما يخدم تكوين صورة للهوية السعودية ضامة لكل هذه الأطياف. أنت تفهم الآن لماذا لا يمكنك الذهاب إلى السينما في السعودية لكن يمكنك حضور مهرجان كامل للأفلام، عليك فقط أن تختار الكُتلة التي تريد تجريبها!الرؤية العامة
من المهم ملاحظة أن السعوديين لا يشاركون بشكل مباشر في صناعة القرارات السياسية كشأن أغلب البلدان العربية، لكنهم يوماً بعد آخر يحاولون فتح قنوات للتعبير والتأثير، يحدث ألا تنجح هذه المحاولات، ويحدث أن يتم الإصغاء لها. الحكومة السعودية لا تفضّل تقديم إصلاحاتها كردة فعل، لذلك غالباً ما تنتظر إلى أن تهدأ وتيرة التعبير ثم تمرر قرارتها الإصلاحية، عبر قوانين أو قرارات أو إقالة وزراء، كما حدث أخيراً بشأن تنظيم عمل الهيئة، الذي هو بمثابة منع كامل للتدخّل في حريّات المواطنين والاعتداء عليهم. الحكومة الجديدة تحاول احتواء الأغلبية الشعبية، وأن تبدو "مُقنعة" – التعبير الذي استخدمه ولي ولي العهد محمد بن سلمان- لتطلعات الشباب. السعوديون ينتظرون حقبة تجديدية تحملها خطة التحوّل الوطني، ويتطلعون لمزيد من الفهم لما سيحدث.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 16 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 16 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت