خاضت الولايات المتحدة الأميركية معظم الحروب الكبرى في القرنين الماضي والحالي أو تدخلت فيها بشكل من الأشكال. ولكن لم يتعرض مدنيوها لأخطار كبرى. وقد تكون حادثة البرجين التوأمين في نيويورك هي أكثر حوادث الحرب كلفة لشعب الولايات المتحدة في تاريخه الحديث.
وحدها أميركا حمت مدنييها
في الحربين العالميتين الأولى والثانية لم يسجل خسارة مدنيين أميركيين طوال الحرب، في حين أن الجيوش في هاتين الحربين استهدفت مدنيي الأعداء بشكل ممنهج، ومنها جيش الولايات المتحدة الأميركية الذي دمّر ثمانين بالمئة من مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين وقتل معظم سكانهما. فالجيش السوفياتي في الحرب العالمية الثانية لم يوفّر حتى المواطنين السوفيات. وحين كان يتراجع أمام الجيش الألماني اتبع سياسة الأرض المحروقة بحجة أنه يريد منع الألمان من الاستفادة من خيرات المدن والقرى والحقول التي سيحتلها. والجيش الياباني الذي هاجم الصين، عام 1937، ارتكب أبشع المجازر بحق المدنيين الصينيين. وحده جيش الولايات المتحدة الأميركية نجح نسبياً في حماية المدنيين الأميركيين خلال الحروب. الأرض الأميركية لم تتعرض لقصف معادٍ منذ قرون، والمحيطات التي تفصلها عن بقية العالم المحارب، صنعت لها منعة وقدرة على تحييد سكانها عن آثار أيّة حرب، وهو الأمر الذي له أكبر الفضل في انتصارات الولايات المتحدة في حروبها الكبرى. فأميركا هي الدولة الوحيدة التي اشتركت في حربين كبيرتين وحروب أصغر ولم تتأثر بنيتها الأساسية بالخراب والدمار الناجمين عن الأعمال القتالية. وهذا سهّل لها أن تستمر في صناعتها وأبحاثها بعيداً عن خطر الدمار والخسارات المباشرة.تجربة أميركا تؤثر على سياساتها
ولأن ذاكرة الشعب الأميركي لا تختزن فظائع الحروب، فإن مسالك سياسييها في الحروب التي تحدث خلف البحار التي تحرسها تبدو مختلفة عن المسالك التي تتبعها الدول الأخرى التي تملك تاريخاً من الخسارات الفادحة على كل المستويات. تأسيساً على هذا المعطى الأساسي في تاريخ أميركا العسكري، يمكن الانتباه إلى أن هذه الدولة الكبرى لا تتدخل في الأزمات الكبرى على النحو الذي تتدخل فيه الدول الأخرى.الفرق بين أميركا والآخرين
وفي ما خص الأزمة السورية والأزمات الأخرى في الشرق الأوسط، لا تبدو الولايات المتحدة مضطرة للتدخل على نحو ما تجد أوروبا الديمقراطية نفسها مضطرة للتدخل، لأن الأزمة مدت أذرعها إلى داخلها وإلى قلبها بالذات. كذلك لا يمكن قياس المنطق الذي يتحدث به الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من حيث قدرته على التماسك بمنطق الرئيس الأميركي باراك أوباما. فالأزمة السورية بالنسبة لإردوغان هي أزمة داخلية مئة بالمئة وخارجية مئة بالمئة أيضاً. هي أزمة تفتح أبواب تركيا برمتها على الخوض في نزاعات أهلية قد ترقى، إذا لم تعالَج بالطريقة الأفضل، إلى مرتبة الحروب. أما روسيا فهي تخوض حربها في سوريا بمزيج من القلق الداخلي، من جهة أولى، ومن الطموح إلى دور أكبر في تقرير السياسات في المنطقة من جهة ثانية. والمملكة العربية السعودية أيضاً ترى في الأزمة السورية أزمة داخلية. وألمانيا وفرنسا ليستا بعيدتين عن هذه المرتبة. فبالنسبة لهما هي أزمة داخلية بشكل من الأشكال. أما أميركا فليس لديها أي من هذه البواعث، ولا تملك أياً من أسباب القلق التي تملكها باقي الدول. لذلك حين يتحدث البعض عن تخلٍّ أميركي عن المنطقة، فإنما يتحدث في ما لا معنى له أو في ما يكاد يكون بلا معنى.أميركا المسوّرة بمحيطين
أميركا التي يحدّها محيطان كبيران لا تملك سبباً لتفضيل محيط على الآخر. على الأقل لا تملك سبباً لتفضيل الأطلسي على الهادئ. ثمة مطامع وأخطار على الضفتين وهي تتعامل معها بالدرجة نفسها من الأهمية. وربما تكون العين الأميركية مركّزة أكثر على المحيط الهادئ لأسباب تتعلق بالاقتصاد في الدرجة الأولى والشراكات الاقتصادية المنتجة، ولأسباب تتعلق أيضاً بوضعها الداخلي حيث أن الهجرات التي تحصل من آسيا نحو الولايات المتحدة هي الأعلى نسبة، بما لا يقاس، من الهجرات التي تنتقل عبر المحيط الأطلسي. وإذا كان ثمة أزمة مهاجرين إلى أميركا فهي بالدرجة الأولى قارية مصدرها حدودها البرية مع المكسيك، وبالدرجة الثانية بحرية ويسبق فيها المحيط الهادئ المحيط الأطلسي بأشواط. وعلى مستوى شراكات أميركا الاقتصادية مع الخارج، تحوز الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والهند إلى حد ما مرتبة أعلى بما لا يقاس من منطقة الشرق الأوسط ودوله. فالعلاقة الاقتصادية القائمة بين واشنطن وهذه البلدان تقع في صلب الاقتصاد الأميركي فيما تقبع العلاقة مع دول الشرق الأوسط في هامشه. أما روسيا فتكاد العلاقات التجارية التي تديرها مع الولايات المتحدة أقرب ما تكون إلى المقاطعة التامة من الجانب الأميركي. فبين التبادل التجاري الذي يعتمد بصورة أساسية على التقنيات العالية الدقة مع هذه الدول، وبين الحاجة إلى المواد الأولية التي تصدرها دول الشرق الأوسط إلى أميركا ثمة فرق كبير، هو الفرق بين أن نخيّر الاقتصاد الأميركي بين معالجة قلبه أو معالجة أظفاره. لا شك في أن المواد الأولية التي يأتي معظمها من دول الشرق الأوسط هي ضرورية للاقتصاد الأميركي، لكن التجارة القائمة مع دول آسيا الكبرى تتعلق بمستقبل الاقتصاد الأميركي وقدرته على الاستمرار في ريادته. ولهذا تولي الولايات المتحدة جلّ عنايتها لهذه العلاقة، وتهمل الأخرى نسبياً. وفي نهاية الأمر، لا تبدو الولايات المتحدة متأثرة اقتصادياً بالحرب الدائرة في تلك المنطقة. وهي حرب كان من نتائجها المباشرة أنها هبطت بأسعار النفط إلى أدنى مستوى له منذ عقود، ما يجعل استمرارها لمصلحة الاقتصاد الأميركي على المديين القصير والمتوسط.متى تتدخل أميركا؟
لذلك لا يبدو الطلب من الولايات المتحدة التدخل الفاعل في مجريات الأمور في المنطقة طلباً منطقياً في الوقت الراهن. مع ذلك لا تدّخر الولايات المتحدة جهداً في حفظ موطئ قدم لها في تلك الحرب. وما إن تشارف هذه الحرب نهايتها حتى تتدخل أميركا فيها بكل قوتها بعدما تكون الحرب قد أنهكت كل المتدخلين الحاليين، فتجني المكاسب بشكل شبه حصري، في وقت تكون الدول الأخرى قد باتت في أمس الحاجة إلى الهيمنة الأميركية لإنقاذها من مستقبل أسود. وهذا بالضبط ما عناه التدخل الأميركي في أوروبا بعد الحرب الثانية، وما جعل أوروبا تعجز منذ تاريخ انتهاء تلك الحرب عن امتلاك استقلاليتها السياسية والاقتصادية والعسكرية على نحو ما زال ماثلاً حتى اللحظة. الأميركيون الناجون من ويلات الشرق الأوسط لن يلبثوا أن يجعلوا من نجاتهم حصانهم الرابح حالما تصبح حروب الشرق الأوسط عبئاً ثقيلاً على كل المتحاربين.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين