حي "المكس" (غرب الإسكندرية)، أحد الأحياء القليلة المتبقية من "الإسكندرية القديمة"، أو كما يطلق عليه البعض "فينسيا" مصر، نظراً لاعتماد الصيادين في حركتهم للتنقل بين المنازل بالمراكب الصغيرة أحياناً. ويحتفظ ببعض ما تبقى من روائح الزمن الماضي، التي تميزت بها الإسكندرية. وبالرغم من تصدر العمارات الضخمة للمشهد الآن في "المكس"، فإن الطابع الشعبي يغلب على قاطنيه، فما زالت بيوت الصيادين الصغيرة، التي لا تزيد عن طابقين متراصة على مصب ترعة "المحمودية" العذبة، التي تصب في مياه البحر الأبيض.
تشهد الإسكندرية عملية تغيير ضخمة، بدأت بطرح الشواطئ العامة المجانية لمزادات، إما لتحويلها لملكيات خاصة بالمنشآت المجاورة والفنادق الجديدة، أو لتحويلها إلى شواطئ غير مجانية، الأمر الذي أثار غضب الإسكندريين، وغيرهم من المصطافين، الذين يجدون في شواطئ المدينة المجانية ملاذهم لقضاء العطلة الصيفية. إلا أن يد التغيير سوف تطال واحداً من أقدم أحياء الإسكندرية "المكس"، بعد أن عرض المسؤولون على سكان المنطقة، الذين يعمل غالبيتهم في الصيد، ترك منازلهم الصغيرة على مصب الترعة والانتقال إلى عمارات في منطقة أخرى.
الصياد رزقه على الله
يجذب الشبكة برفق على قدمه، ويشبكها في إصبعه الكبيرة بينما تتحرك يداه بحثاً عن الخيوط المهترئة، ليواصل حياكتها بإبرة ضخمة. يتمايل المركب الصغير بفعل حركة المياه. أكثر من 10 ساعات يقضيها أحمد، الشاب الثلاثيني ببنيته القوية وملابسه البسيطة وقبعته المميزة، برفقة صيادين آخرين لـ"ترقيع الغزل"، ويعودون إلى منازلهم لاستكمال العمل نفسه، ففي كل مرة يخرجون فيها من البحر، تحتاج شباكهم لعلمية الترقيع.
"أنا ورثت مهنة الصيد عن أبويا وجدي، بس زمان كان أحسن من دلوقتي، أحنا من صباحية ربنا يا بنصطاد يا بنرقع، لأن كيلو الغزل بـ120 جنيه، والشبكة يبدأ وزنها من 80 كيلو وبتوصل لـ200، واحنا بطلنا نعمل شبك جديد، لأن كل حاجة بقت غالية، والمركب بيوفر لنا دخل بسيط يا دوب بنعرف نعيش"، يقول أحمد، فيما يداه منهمكتان في الترقيع.كوب شاي ساخن مُحلى بكثافة، هو كرم ضيافة في مركب بـ"المكس"، "معلش أحنا فطرنا سمك ورز لأننا بنخرجوا من بدري، ولازم ناكلو كويس، بس نحبوا نعزموكي على شاي، وقبل ما تشربيه هتسألي ليه محلى أوي كدة، هنقولوا لك عشان ملح البحر مرر بوقنا (فمنا)، وبنحتاجوا سكر كتير عشان نحسوه"، يضيف أحمد وهو يلوح لزملائه العائدين لتوهم من البحر، ويسألهم عن "مزاج" البحر اليوم.
المكس غارقة في مياه الصرف الصحي
في شوارع ضيقة، غلبت عليها رائحة الصرف الصحي، تصطف المنازل على مسافة كيلومتر ونصف المتر على مصب الترعة، بينما تتمايل المراكب "المربوطة" في المنازل وتستعملها كمرفأ. يؤكد الأهالي أن مياه الصرف الصحي اختلطت بمياه الترعة التي تصب في النهاية بالبحر، إلا أنها تلوث المجرى الذي ترتكن عليه المنازل، وانتشرت أمراض عدة. وبالرغم من عمليات التطوير التي شهدتها الإسكندرية، فلا تزال هذه المناطق محرومة من مجاري الصرف الصحي، ومن بعض البنية التحتية.
"المركب بيكسب في اليوم مثلاً 200 جنيه، 100 تخرج للمركب زيت وغاز وصيانة وشبك، و100 تتقسموا على اللي خرجوا يصطادوا.. ولو الحكومة نقلتنا من مكاننا دلوقتي هنروحوا فين ونشتغل إيه... بالأولى كانوا عملوا لنا وعملوا لإسكندرية كلها صرف صحي بدل ما ينقلونا بحجة أن الصرف الصحي بيصب عندنا، وده زود منسوب المياه والبيوت هتقع... ده غير أن العمارات اللى بنوها لنا احنا شوفناها... شققها أصغر من بيوتنا هنا.. هو ده بقى التطوير اللي هما بيوعودونا بيه"، يتحدث أحمد بأسى وخوف من الرحيل، ويسأل أين سيجد مرفأً طبيعياً لمركبه.
عدد آخر من أبناء "المكس"، الذين لا يعملون بالصيد، أبدوا سعادتهم بقرار الانتقال الذي وعدت به الحكومة سنوات ولم يتحقق، إلا أنه جاري تنفيذه الآن. أكدت أم محمود، وهي خمسينية، أنها كانت في انتظار قرار الحكومة بترحيلهم عن المنطقة، لتهرب من رائحة الصرف الصحي وتحصل على منزل حقيقي، وليس مجرد جدران آيلة للسقوط على مصب ترعة مسمومة.
"يعني حتى لو اللي مش عايزين يمشوا من هنا صيادين.. ممكن يسيبوا المراكب هنا ويجوا كل يوم يشتغلوا، ويرجعوا بيوتهم تاني... يعني هي الحكومة هتاخد مراكبهم... دي هتخلي البيوت كمان مش هتهدها، مش صحيح أنها هتعملها منطقة سياحية... هما قالوا لنا كدة"، تقول أم أحمد بثقة، وتعتبر أن قرار المسؤولين بترحيلهم من منطقتهم يهدف لمصلحتهم، وتوفير سكن أكثر ملائمة لهم.
تصوير: كارولين كامل
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...