يبقى في شرقنا النائم أن الضرب هو وسيلة الحوار الأخيرة لتقويم أمر ما، وكثيراً ما يكون وسيلة الحوار الأولى، فيقولون: ناس ما بتجي إلا بالصرماية. والصرماية في العرف السوري هي إجبار الشخص على تنفيذ طلباتك. العسكر يستمتعون بأن البوط العسكري أو البسطار هو شعارهم، ولم لا، فهو الذي عبره يبسطون سيادتهم، أو بالأحرى سيادته، سيادة الأب، وسيادة الأب هي المطلب الأساسي للمجتمع الأبوي، فبدون سيادته لا يمكن أن تقوم دولة للتخلف، وممالك للجهل والتجهيل.
إنه ركن أساسي من أركان الخنوع، سيادة الأب، وسيادة الأب اليوم جالس في مكان عام بصحبة عائلته اللطيفة المتباهية بإنجازاته الأبوية، فهذا أب لا يضرب أطفاله، إنه متعلم وراقٍ، وهذا ابنه شادي المراهق الذي لم تنفع معه كل الحلول الترغيبية والترهيبية. ما من ممسك على المتعلم الراقي أنه قام بضرب شادي بسبب رسوبه في البروفيه بنجاح كبير لعامين متتالين، لكن العقل والمنطق يقولان إن شخصاً بكسل ومياعة وتسيب شادي لا بد وأنه قد تعرض للعقوبات الذكية أو غير الذكية من والده المتعلم الراقي.
إلا أنه ما من دليل، حتى شادي نفسه لا يدلي بأية اعترافات بهذا الخصوص، بل بالعكس، فقائمة الترغيبات لتحفيزه على النجاح كثيرة، منها حصوله على سيارة حال نجاحه في البكالوريا وبمجموع مرتّب، وأبو شادي يعرف أن شادي (طلطميس)، ويا دوبك ينجح شحط، وبناء عليه فقد صار نجاحه شحطاً يستحق سيارة وشهادة سواقة بدون فحص تقدمة دائرة المرور بسعر زهيد، ألا وهو مائة دولار. لكن هيهات أن تقنع شادي بكل هذه الأشياء، لأنه يحصل عليها لوحده بدون اضطراره لأن يكون ابناً باراً ومجتهداً للحظة. فما إن يغرق الوالد في أحلام القيلولة، حتى يكون شادي قد امتطى السيارة الحمراء وطار بها بدون شهادة مشفطاً أمام مدارس البنات، وفي الحارات الراقية التي تلتقي فيها عادة السيارات المسروقة من الآباء، وعندما يستيقظ الأب ويجد أن السيارة طارت يجن جنونه، وبالطبع فإن شادي سيتلقى الضربات والرفسات واللكمات، لأنَّ أبْ شادي من الصنف العصبي.
"وِلِي راح الصبي"، هكذا تكلمت أمّ شادي، لكن لا أحد يعترف أنَّ أب شادي يمارس التعذيب ضد شادي، بالعكس، فهو يدلّل شادي، ويعطيه الفرصة تلو الأخرى كي يركز ويضع عقله في رأسه ويقرر مستقبله بدون ضغوط. هذه هي الأخبار الرسمية القادمة على الدوام من بيت أم شادي، رغم شكوك الجمهور، لأن شادي من الشخصيات المعرَّضة إلى تلقي أصناف التعذيب الممنهج وغير الممنهج في أعرافنا وقوانيننا التربوية المحلية.
المهم مالكم بالطويلة يا شباب، فإن النادي الراقي الذي يلتقي به المتعلمون من صيادلة وأطباء ومحامين ومهندسين على موعد مع أب شادي وأم شادي وشادي وشقيقة شادي التي دخلت لتوها نادي الفتيات الراشدات البالغات سنّ الرزانة والوقار والحركات المدروسة. وداعاً للطفولة يا بنت، وداعاً للمراهقة، أنت امرأة الآن يا فتاة، وشادي يلعب، شادي هو الأصغر من أخته بعامين، هو الولد الذي رسب في البروفيه لعامين متتالين، هو الذي يسرق سيارة الوالد ليلاً نهاراً، سراً وجهاراً، ويقودها مشفطاً في حارات الأكابر وأمام مدارس البنات، وهو الذي تأتي ضده إلى البيت التبليغات، أينما حل وارتحل تُقيَّد ضده قضية.
كسر بللور الجيران بتسديدة متميزة من قدمه الفكحاء، قام بتلطيش ابنة الجار السابع عند التقائهما على مدخل البناية في الصباح، بل ولاحقها إلى مدرستها وكأنه حارسها الشخصي المكلف بحمايتها من الأعداء، سرق من جزدان أمه ما تيسر من أوراق مالية، ومضى ليصرفها على ملذاته الشخصية ورفاق والسوء، وعشرات التبليغات الأخرى الكفيلة كلّ واحدة منها بخلعه كفاً من نوعية صفعات (بلغ السيل الزبى)، فليس من الممكن ألّا ينال عقاباً غبياً، إلا إذا كان أب شادي من صنف الملائكة، ولكن لا تقارير تثبت ذلك، فأب شادي الراقي لا يضرب أطفاله، حتى لو من أجل مصلحتهم.
ما علينا يا شباب، طلبَت أمّ شادي الشرحات من الكرسون، وجلست تنتظرها على أحرّ من الجمر، الشقيقة الكبرى لشادي نهضت إلى الحمام لتغسل يديها قبل الطعام، فهي آنسة الآن، والآنسات يغسلن أيديهن قبل الطعام، وشادي يحوم بين الطاولات، وقد هلك رواد المكان وهو يتراكض بينهم مزعجاً هذا، ومضايقاً ذاك، لكن لا مناص من القبول به كأمر واقع، فأب شادي ضد ضرب الأطفال، ولا يمكنه حتى ولو مجرد نهْر وزجْر شادي أمام العيان. لذلك فما على العيان إلا تحمّلَ شقاوة المراهق الشادي. تعود الشقيقة الكبرى إلى الطاولة وتهمّ بالجلوس على مرأى من نظرات والدها الفخورة، ويأتي أخوكم شادي ويسحب الكرسي من تحتها فتسقط شر سقطة تحت أنظار جمهور الساهرين، من الفهمانين والمثقفين المتعلمين.
في هذه اللحظة بالذات رنَّ نادي الفهمانين بكفّ من صنف اللي متل فراق الوالدين، نعم، لقد خلع أبو شادي حبيبنا شادي كفّاً أطرب الملايين، بل ويقول البعض إن جمهور الساهرين صفقوا بشكل عفوي لوهلة ثم توقفوا منتبهين، وشدّ شادي الرحال إلى خارج المكان بسرعة البرق واختفى، بينما رنين الصفعة يخيّم على أرجاء المكان، وأعلن أبو شادي عن انتهاء السيران، هيا إلى البيت، بينما أمّ شادي تنظر، وقد نالتها صدمة فظيعة إلى زوجها متسائلة: والشرحات؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 5 ساعاتtester.whitebeard@gmail.com
Ahmad Tanany -
منذ 3 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...