في إحدى ورش العمل التي كنت أحاضر فيها، سألت مجموعة من طلاب الجامعة سؤالاً بسيطاً: ما رأيكم في لطفي السيد؟ الإجابة كانت محزنة، لكنها لم تكن صادمة. معظمهم لم يعرف أي شيء عن الاسم إلى أن رد أحدهم: "مش ده الشارع اللي في غمرة (حي في وسط القاهرة)، اللي بيطلّع على كوبري 6 أكتوبر؟".
أحمد لطفي السيد أو أبو الليبرالية المصرية (1872-1963)، كان مفكراً وفليسوفاً وكاتباً ومناضلاً من الطراز الأول. أستاذ الجيل، كما يٌلقب. أسّس حزب الأمة سنة 1907 بغرض الدفاع عن استقلال مصر والهوية المصرية. كما قاد حملة التبرعات لإنشاء أول جامعة في مصر، جامعة فؤاد الأول أو "جامعة القاهرة" حالياً، أقدم وأعرق جامعة مصرية. شغل بضعة مناصب منها وزير المعارف، ووزير الخارجية، ومديراً للجامعة، ومديراً لمجمع بحوث اللغة العربية. له كتابان: "قصة حياتي" و"مبادئ في السياسة والأدب والاجتماع". عرض عليه الضباط الأحرار بعد ثورة 1952 أن يكون رئيساً لمصر لكنه رفض.
هذا الحوار المقتضب الذي دار بيني وبين بعض طلاب الجامعات يعكس كيف تم تجريف الحياة الفكرية في مصر، من التراث الفكري للرموز الليبرالية. والحقيقة أن الأمر لا يخص لطفي السيد وحده، بل غالبية رموز مصر الليبرالية. الأمر نفسه ينطبق على رموز آخرين مثل هدى شعراوي وسلامة موسى وغيرهما.
فبعد تولي الضباط الأحرار للسلطة عام 1952 في مصر، وتحديداً بعد تمكين جمال عبد الناصر، تم إغلاق المجال السياسي، وأصبح عبد الناصر ونظامه هو الصوت الوحيد. جرى إلغاء الأحزاب وتأميم الصحف، وتدريجياً حدث تجريف الحياة الفكرية المصرية من الإرث الليبرالي لفترة ما قبل حكمه.
وحين تولى أنور السادات السلطة سمح للإسلاميين بالعمل بحرية، على أمل أن يواجهوا التيار الناصري. وكانت تلك غلطة دفع ثمنها حياته كلها عندما قتله الإسلاميون في أكتوبر 1981. أتى من بعده حسني مبارك، الذي لم يسمح للرموز الليبرالية والعلمانية الجادة بالتواصل مع الناس إلا في حدود ضيقة جداً، لا تمكنهم من خلق تيارات واسعة في الشارع السياسي. وقام بذلك ليقدم نفسه للعالم على أنه البديل العلماني الوحيد لشارع سياسي إسلامي معادٍ للغرب. وكان الإسلاميون يتحركون بحرية أكبر تحت حكم السادات ومبارك. فشعار "الإسلام هو الحل" كان في كل مكان، في الجامعة، في الأتوبيس، في الميكروباص، في المصعد، في المكاتب الحكومية.
المثال الأقرب زمنياً على تغييب الفكر الليبرالي والعلماني من الحياة السياسية المصرية هو الدكتور فرج فوده، "شهيد الكلمة" في مصر. كان باحثاً في التاريخ الإسلامي، ومدافعاً شرساً عن العلمانية والهوية المصرية. وقد قُتل لأنه تحدى الإسلام السياسي، فأفتى الشيخ عمر عبد الرحمن بإهدار دمه. بعد الفتوى قتلهاثنان من أعضاء الجماعة الإسلامية، أطلقا عليه الرصاص من على دراجة نارية أمام مكتبه في مصر الجديدة في 8 يونيو 1992.
وهو نادراً ما يسمع اسمه في الإعلام المصري، ومناهج التعليم لم تأت على ذكره. ألا يستحق رجل دفع حياته ثمناً غالياً للدفاع عن الهوية المصرية أن نعلم سيرته إلى أطفالنا؟
ومن سخرية القدر أن الدكتور سيد القمني، الذي نال جائزة الدولة التشجيعية في مجال العلوم الاجتماعية عام 2009، ظل لعقود ممنوعاً من الظهور في التلفزيون. وهو مفكر وباحث في التاريخ الإسلامي، ومدافع قوي عن العلمانية والهوية المصرية، وأحد أصدقاء فوده المقربين. فالدولة تكرمه على أعماله وكتبه، وتمنحه جائزة قدرها 200 ألف جنية (نحو 26 ألف دولار)، لكنها تمنعه من أن يتحدث إلى الناس عن هذه الأعمال والكتب. في الوقت الذي تفرد فيه الشاشات، ساعات لشيوخ السلفية المتشددين أمثال ياسر برهامي، الذي ينادي بتزويج القاصرات، ومحمد حسان الذي حرض علناً على قتل الشيعة وطردهم من مصر.
أما عن الكتب والمناهج الدراسية فحدث ولا حرج. فقد أنهيت دراستي الجامعية، والدراسات العليا في مصر قبل أن أكمل دراستي في الخارج، ولم أدرس موضوعاً واحداً يشرح معنى الليبرالية أو العلمانية أو الحقوق الفردية أو ما شابه.
مقالات أخرى
مصر، فساد الكبار يكشف ارتباك النظام
ماذا جنى فقراء مصر من الثورات؟
بينما درست في الصف الأول الثانوي، لمدة عام كامل، قصة حياة عقبة بن نافع. وهو ليس مصرياً، إنما من أهل الجزيرة العربية، وكان القائد العسكري الذي خرج من شبه الجزيرة العربية ليغزو بلاد المغرب، تحت شعار نشر الإسلام. لا أفهم كيف يمكننا أن نعلم أطفالنا أن غزو بلاد الآخرين أمر محمود يقوم به الأبطال العظام، ثم نقنعهم أن ما تقوم به داعش وغيرها من الجماعات التي تقتل وتروع الناس باسم الإسلام، هو أمر مذموم ولا يمت للإسلام بصلة!
منذ أشهر عدة دفعني الفضول للدخول إلى موقع YouTube، علّني أجد فيلماً وثائقياً يتحدث عن حياة أو أعمال لطفي السيد، لكنني للأسف لم أجد أي شيء، باستثناء ندوة وحيدة عقدتها حركة علمانيون.
لكن حين كتبت اسم حسن البنا مؤسس جماعة الأخوان المسلمين، وسيد قطب المفكر الأخواني الذي كتب كتباً أصّلت للإرهاب الذي نراه اليوم، وأشهرها كتاب معالم على الطريق الذي يشرح فيه كيف على المسلمين أن يخضعوا البشرية كلها لأحكام الشريعة بالقوة والقتال. فقد وجدت عشرات المقاطع والأفلام التي تشرح سير حياتهما. من أفلام تهاجمهما إلى أفلام وبرامج تدافع عنهما.
الحقيقة العارية أن ما تشهده مصر من أسوأ موجة إرهاب في التاريخ الحديث، ليس إلا الناتج الطبيعي لانتشار أفكار البنا وسيد قطب ومحمد بن عبد الوهاب، وأبو الأعلى المودودي وابن تيمية، على مدار عقود طويلة من دون أي منافسة تذكر.
فإذا كنا جادين في مواجهة الإرهاب واقتلاعه من جذوره، فهل حان الوقت أن نسترجع تراثنا الليبرالي، ونستبدل سيرة عقبة بن نافع بسيرة لطفي السيد، وأن ننتج أفلاماً عن هدى شعراوي وسلامة موسى بدلاً من سيد قطب وحسن البنا؟ وأن نسمح لسيد القمني وإسلام بحيري أن يتحدثا بحرية بدلاً من أن نضيّق عليهما ونحاكمهما؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...