حين تحط طائرتك في مطار قبرص الشمالية، وهي جزء من ثالث أكبر جزر البحر المتوسط، بعد صقلية وسردينيا الإيطاليتين، لن تشعر أنك خرجت من الحدود الرسمية للدولة التركية. ففي المطار، الترحيب باللغة التركية، وحين تخرج من بابه، ستجد العلم التركي يرفرف إلى جانب علم الدولة "غير الموجودة". وإن شعرت بالجوع، فستجد نفسك أمام المطبخ التركي، وستدفع حسابك بالليرة التركية، فمعظم البنوك التركية تعمل هناك.
لكن اللافت في هذا الشطر من الجزيرة، وتغطي أراضيه ثلث مساحة جمهورية قبرص اليونانية، هو إتقان نسبة كبيرة من السكان المحليين اللغة الإنغليزية. والسيارات تتم قيادتها على يسار الطريق، أي أن المقود على اليمين، مع ملاحظة اعتياد السكان مقارنة سعر صرف الليرة بالجنية الاسترليني بدل الدولار أو اليورو. كما ستلاحظ المواطنين ذوي الأصول الهندية. هنا ربما تفيد العودة إلى التاريخ الحديث لجمهورية قبرص، الجزيرة التي استقلت عن الحكم البريطاني في العام 1960.
في سبعينيات القرن السادس عشر الميلادي، اجتاح الأتراك العثمانيون الجزيرة وحكموها حتى العام 1878، ومن ثم سلًموها إلى بريطانيا التي حولت الجزيرة إلى مستعمرة ملكية عام 1925. وبعد ذلك أطلق القبارصة اليونانيون منظمة "أيوكا"، التي شنت حرب عصابات عنيفة ضد البريطانيين. وبعد سنوات من إعلان بريطانيا حالة الطوارئ في الجزيرة، عقد اجتماع بين اليونانيين والأتراك في زيوريخ بسويسرا عام 1959، وتوصلوا لاتفاق يقضي بأن تصبح قبرص دولة مستقلة. وافقت بريطانيا على اتفاقية زيوريخ ونالت قبرص استقلالها في أغسطس 1960. وتم تقسيمها بعد التدخل العسكري التركي عام 1974 إلى جزئين، بغالبية سكانية يونانية في الوسط والجنوب، وغالبية تركية في الشمال، فأعلن في العام 1983، قيام "قبرص التركية".
تمتد قبرص الشمالية على مساحة من اليابسة تبلغ 3355 كيلومتراً مربعاً، من أصل 9251 هي إجمالي مساحة جزيرة قبرص، وهي لا تبعد سوى 64 كيلومتراً عن جنوب تركيا. وفيها مجموعة من الموانئ، من بينها ميناء كرينيا، تستغرق الرحلة منه إلى مدينة أضنة التركية نحو 4 ساعات.
الواقع أن تركيا هي البوابة الوحيدة لقبرص الشمالية إلى العالم، إذ تعترف أنقرة وحدها بهذا الشطر، وبالرغم من إجراء مفاوضات السلام على مدار عقود برعاية الأمم المتحدة، لم تتم تسوية النزاع، وتعتبرها الأسرة الدولية أراض محتلة. العقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي تتعلق بالنقل الجوي من الشطر الشمالي وإليه. كما أنها من أكثر الأماكن التي تعاني من نقص المياه في العالم، وهذا ما دفع الحكومة التركية أخيراً، إلى مد خط أنابيب تحت مياه البحر بطول 80 كيلومتراً، كجزء من مشروع بلغت كلفته 538 مليون دولار، لجلب المياه العذبة عبر البحر إلى الجزيرة.
يعد الجزء اليوناني من الجزيرة أغنى من التركي. وسكان "الشطر التركي" من الجزيرة، هم ضحايا الصراع السياسي بين تركيا والاتحاد الأوروبي. ولا يزال نحو 200 ألف، غالبيتهم من القبارصة الأتراك والمهاجرين الأتراك، يعيشون على أراض لا تزال حدودها غير مرسومة بدقة. ويعانون من القيود المفروضة جراء العقوبات الدولية، بالرغم من مساهمة أنقرة في موازنة الشمال السنوية بنسبة 30%، وتمويلها الجانب الخدمي، كشق الطرق وبناء المستشفيات. بالإضافة إلى استفادة شمال قبرص من قطاع السياحة، إذ يزورها نحو مليون سائح سنوياً.
السياحة في الجزيرة
الحديث عن السياحة في الجزيرة، التي تصنف إحدى الوجهات السياحية غير المكلفة، يمكن أن يبدأ بمدينة ليفكوشا، التي تقع على بعد ساعة واحدة من مطار أرجان، وهي مدينة تتميز بماضيها العريق، تضم 3 أبواب تاريخية جرى ترميمها، وهي باب موسا وباب غرنا وباب الباف. وهناك الخان الكبير، الذي بناه المحافظ العثماني مظفر باشا عام 1572، تنتشر قربه الأسواق القديمة المجددة، ويستخدم كمركز اجتماعي وثقافي يتم فيه التعريف بالمطبخ التركي القبرصي.
تشتهر قبرص الشمالية بالأطباق المحلية كجبنة الحلومي الشهيرة، والعديد من الفواكه المحلية كعنب "الفيرجوا" و"الغريبفروت". كما تعد مدينة كيرينيا من بين المنتجعات المتميزة، التي تشكل عصب الحياة السياحية في الجزيرة، بالإضافة إلى قلعة القديس سانت هيلاريون وقلعة الثلج الأبيض، وقصر فوني، وهي القلعة الفارسية الوحيدة في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
مقالات أخرى
قصص المعتقلين تعسّفاً في سجن مطار إسطنبول الدولي
تجارب ثقافية سورية بارزة في اسطنبول
من الناحية السياسية، يقول يلماز أونور، وهو سائق سيارة أجرة في الجزيرة، عن وضع الحكومة في قبرص الشمالية، التي يعتبرها "صورية": "من يحكم ويأمر ويقرر في هذا الشطر من الجزيرة، هو رجب طيب أردوغان". وفي أبريل الفائت، انتخب مصطفى أكينجي، مرشح يسار الوسط، رئيساً لجمهورية شمال قبرص، وخلف الرئيس المنتهية ولايته درويش إيروغلو. علماً أن أكينجي هو أحد أكبر الداعمين للمصالحة مع الحكومة القبرصية اليونانية المعترف بها دولياً.
وكانت وسائل إعلام تركية أفادت أخيراً، أن الرئيس أكينجي أعلن إلغاء التأشيرة على بوابات الحدود التركية، مع الشطر القبرصي اليوناني. وتالياً، تمكن سكان الشطرين من عبور الحدود بمجرد إبراز البطاقة الشخصية، من دون الحاجة إلى تعبئة الاستمارات التي كان يُعمل بها سابقاً.
ويرى يلماز أن "السياسة فرقت بين سكان الجزيرة، وعملت على تصعيد حالة العداء فيما بينهم"، لافتاً إلى أن قريته تقع في الشطر اليوناني، ويقوم بزيارتها بين الفترة والأخرى. ويقول السائق الخمسيني، الذي يحمل الجنسية البريطانية، إنه يتمنى أن يعيش ذاك اليوم الذي تزال فيه الحدود "المصطنعة" بين شطري الجزيرة، لأن "السكان يعانون بالفعل جراء الإجراءات المتخذة في حق الجزء الشمالي". كذلك يفضل سكان هذا الجزء أن يتم التوحيد على أساس فيدرالي، لتكون الجزيرة جزءاً موحداً من الاتحاد الأوروبي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...