شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
هل لدينا إسلام معتدل حقاً؟

هل لدينا إسلام معتدل حقاً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 3 فبراير 201707:59 م

ما يحدث في فرنسا وتداعياته المستقبلية على الغرب كلّه وموقفه من الجاليات المُسلمة يطرح سؤالاً غاية في الأهمية: هل هناك حقاً إسلام معتدل، وإذا كان موجوداً فأين هو؟

في البدء يجب أن نقرّ وبمنتهى الوضوح أن مقولة التشدد التي نبني عليها كل دفاعنا عما يحدث تصبح غير ذات جدوى في مقارعة التطرف إن نحن نظرنا إلى النصوص الدينية المجردة. فحكم سب الرسول محمد أو الإساءة إليه أو التشكيك في رسالته في الأسلام، هو القتل، وهو ما اتفقت عليه المذاهب الاسلامية. وبهذا نفهم أن ما قام به الأخوان كواشي ومن معهما لا يتجاوز المفهوم الديني النصي المتوارث من الفقهاء القدامى وهو المفهوم الحاكم حتى الآن للمرجعيات الدينية.

لقد صرح السيّد حسن نصر الله معلقاً على الهجوم على تشارلي أبيدو أن "حجم الإساءة الذي تسببت به الجماعات التكفيرية لا مثيل له على مدار التاريخ"، وهو كلام صحيح. لكن كلام السيّد نصر الله يصطدم بفتوى المرجع الشيعي الراحل آية الله الخميني الشهيرة ضد مؤلف "آيات شيطانية" سلمان رشدي، والتي تقع في دائرة القمع نفسها لحرية الإبداع والتعبير. ولكنها لا تتعدى النصوص الدينية التي بين أيدينا. كما أن شيوخ الأزهر الذين نددوا بالهجوم لم يشيروا من قريب أو بعيد إلى فتاوى مالك والشافعي وابن حنبل وابن تيمية وغيرهم من رؤوس المدارس الفقهية السُنّية بهدر دم من يسبّ النبي. بل عاد بعضهم لإلقاء اللوم على الغرب في تنامي التطرف الإسلامي غير معترف بأي مسؤولية عنه.

كما أن تنفيذ حكم الجلد بالناشط السعودي رائف بدوي بتهمة ازدراء الدين الإسلامي لا يختلف كثيراً عن الهجوم على تشارلي. القمع هو ذاته سواء كان بالطلقات أو بالسياط أو بالفتاوى.

أزمة الرسوم الدنماركية التي اندلعت عام 2005 بفعل رجل دين فلسطيني مهاجر إلى أوروبا كشفت الغطاء عمّا يفكر فيه العقل الجمعي العربي المسلم القابع في عصور الخطوط الحمراء تجاه حرية تعبير لم يمارسها ولا يفهمها. فالشيخ أحمد أبو لبن الذي استقرّ في بلد أوروبي علماني ذي أغلبية بروتستانتية، استمتع بحياة حرة خالية من الملاحقات بسبب الرأي أو العقيدة أو التمييز بسبب العرق أو الدين، ولكنه فشل في فهم أن حرية التعبير هي جزء أصيل من كل هذا. وكنتيجة لهذا الانفصام الفكري أثار موضوع الرسوم الدنماركية وتسبب في اندلاع تظاهرات في العالمين العربي والإسلامي وما تلاها من اعتداءات على أشخاص ومصالح دنماركية وحرق لمبانٍ دبلوماسية في بضع دول آنذاك.

نموذج الشيخ أبو لبن هو مقدمة لفهم ما أقدم عليه من هم أكثر منه غلواً وتطرفاً. فإن كان أبو لبن قد طالب بالاعتذار ورفض أن يتقبل مفهوم حرية التعبير الغربية ولكنه في الوقت ذاته لم يدع إلى قتل صحفيين، فإنه بالتأكيد فتح الباب أمام من يريد أن يخطو خطوات إضافية في حماية المقدس وتنفيذ المهمة النبيلة في الذود عن سمعة النبي حتى لو سفك دماء لهذا الغرض.

وحادثة مقتل المخرج الهولندي ثيو فان جوخ في أمستردام على يد مسلم بسبب فيلمه "الخضوع" Submission والذي ينتقد وضعية المرأة في الإسلام، هي مظهر آخر لوَهم القداسة في قمع الآخر إن كان يختلف معنا في الرأي.

وقد انسحب هذا الحكم الصارم على نظرتنا كشعوب لكل من يمسّ ما نعتبره مقدساً، سياسياً كان أم دينياً. ففي العراق مثلاً، هاجم مجهولون مقرّ صحيفة "الصباح الجديد" لأنها نشرت رسماً كاريكاتورياً عن المرشد الإيراني آية الله خامنئي. وقد أخرجت هذه الحادثة للعلن خطوطاً حمراء غير معلنة تضمّ أسماء قيادات دينية لا تجوز الإشارة إليهم إلا بالتبجيل والمديح. كما أن محاولة قتل نجيب محفوظ واغتيال فرج فودة تدور كلها في إطار إلغاء الاختلاف الفكري عن طريق الاستئصال الجسدي.

وما دامت الفتاوى المتوارثة غير قابلة للتعديل فإنها ببساطة لم تعد قابلة للتطبيق. والبديل لدينا هو تغيير العقلية الدينية التي تتعامل مع هذه القضايا، والتي يمكنها أن تأتي بنصوص جديدة تستلهم عموميات المقدس لمصلحة نظرة أكثر إنسانية وتسامحاً. فإذا كنا ننظر للنصوص على أنها خامات من قماش فإن المقص والخيط بيد القيادات الدينية التي يمكنها تعديل الرداء ليلائم روح العصر. هذه القيادات الدينية بإمكانها أن تعيد خياطة الجلابيب التي ترتديها الفتاوى الحالية إلى قمصان عصرية يمكنها أن تنتشر بين الشباب وتكون صورة جديدة يقبلها العالم المتحضر وتساعد المسلمين على الخروج من قمقم التبعية لمفاهيم ما قبل الحداثة الحضارية.

التحدي الحقيقي يكمن في تغيير الخطاب الديني الملغوم المنتشر في كتب التراث والمتداول في الجامعات والفضائيات وعلى تويتر وفيسبوك. فكم التعليقات الشبابية المبررة لما حدث في فرنسا على وسائل التواصل الاجتماعي بحجة حرب الغرب على المسلمين في العراق وسوريا وفلسطين وغيرها، بل وسوق الأوهام المنتشرة عن مؤامرات لضرب الإسلام عن طريق تدبير حوادث مثل الحادي عشر من سبتمبر يلقي الضوء على عمق المشكلة وثقل ما يجب تغييره.

إن المؤسسات الدينية الإسلامية في الغرب التي تجد نفسها في موقف المدافع المحرَج كلما أطلق متشدد النار على الغرب لا تملك المرجعية الكافية لفرض تغييرات نصيّة ملزمة. المرجعية الدينية لا تزال في الشرق الأوسط وبيد مؤسسات محددة بعضها (مثل الأزهر) يتحرك بفعل إرادة سياسية وليس بفعل رغبة ذاتية في التجديد. ولكن في كل الأحوال فإن التغيير وحتى لو جاء بفعل ضغط سياسي يمكنه أن يصبح فاتحة لإصلاح ديني يحتاج إليه العالم الإسلامي. إن بيانات الشجب والتنديد وإلقاء اللوم على المتشددين لم يعد كافياً وليس مجدياً بل أصبح بالفعل دليل تواطؤ عن طريق السلبية والسكوت.

إن المطلوب ليس تشجيع ازدراء الأديان والمقدسات، ولكن بالأحرى إدراك أن هذا قد حدث في السابق وسيبقى يحدث لأننا نتعامل مع عقلية مختلفة وعصر لا يعترف بالممنوعات العتيقة. كما أن رفع لافتات "أنا شارلي Je Suis Charlie" لن يوقف توالي هذه العمليات ولا تفريخ إرهابيين جدد. أن تكون تشارلي بالفعل (أو أن تكون أحمد على اسم الشرطي المسلم المغدور في الهجوم على تشارلي ابيدو) هو أن تؤمن بحق الآخر في التعبير عن رأيه وهو أمر يصعب على العقلية العربية حتى الآن أن تتقبله. وحتى قبول المجتمعات المسلمة في الدول الغربية بهذه الحرية هو أمر مستعار بفعل المحيط السائد لأن أغلبهم ببساطة لم يمارسوها في بلادهم.

الطريق طويل والعمل صعب كمن يريد أن ينقل جبالاً ترسّخت منذ قرون إلى متاحف التاريخ ولكن البديل أشدّ خطورة وأوخم نتيجة على الأجيال الحالية والأجيال اللاحقة. أصبح لزاماً علينا الآن أن ننزع القداسة عن تلك الفتاوى التي ملأ بها الكتبَ فقهاءُ القرون الوسطى. فهم مفسرون لا مشترعون، والقرآن والإسلام عموماً كلام يفهمه الرجال، وأولئك الفقهاء فهموه وفق عصرهم ونحن الآن أكثر تواؤماً مع عصرنا وأدقّ فهماً له. لا بد أن تبدأ الآن عملية جريئة لتمزيق الأستار التي تفصلنا عن العصر، وإلا توالت علينا الحجب وسقطنا أكثر وأكثر بين مطرقة التشدد المتزايد في صفوفنا وسندان الشكّ والريبة في نياتنا من قِبل الآخرين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image