لم تحظَ الصحافة التونسية بكثير من الدراسة والبحث، إذ بقيت بعض فروعها ومضامينها مجهولة إلى حد بعيد. وهناك فرع أضحت أخباره مطمورة في خزائن الأرشيف وعلى رفوف المكتبة الوطنية بدون أي تحليل وهو الصحافة العبرية.
ازدهرت الصحافة العبرية في تونس مدة قاربت الـ62 عاماً، وتباينت توجهات الصحف التحريرية والسياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار معبّرةً على السجالات التي شهدها المجتمع التونسي في ظل الاستعمار الفرنسي. كذلك، عرضت الصحافة العبرية واقع الطائفة اليهودية ومشاكلها الداخلية وعلاقاتها ببقية مكونات المجتمع التونسي. هذا التراث العبري المجهول والمتروك يشكل ثروة وثائقية يمكن الاستعانة بها لتحليل توجهات يهود تونس خلال النصف الأول من القرن العشرين، في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومواقفهم من قضايا الاستعمار والاندماج والصهيونية وتقسيم فلسطين والحرب العالمية وغيرها من القضايا التي شغلت العالم آنذاك.ثلاث مراحل من الصحافة العبرية
مرّت الصحافة العبرية في تونس بثلاث مراحل كبرى. المرحلة الأولى هي مرحلة التأسيس. كان ذلك قبل استعمار تونس. ففي العام 1878، صدرت أول صحيفة عبرية في البلاد تحت اسم "العمالة (الولاية) التونسية" (La province Tunisienne) وكانت ذات طابع ثقافي. تمتد هذه المرحلة إلى العام 1904 وقد تميزت بمواجهة الصحف العبرية صعوبات مادية وتقنية إضافة إلى المعوقات السياسية التي فرضها الاستعمار بعد إقراره قانون الصحافة عام 1884 وفرضه ضماناً مالياً كشرط لإصدار الصحف. وقد تميزت صحف المرحلة التأسيسية بالاهتمام بالثقافة اليهودية المحلية وبقلة الاهتمام بالأحداث السياسة.
منذ العام 1904، تاريخ إلغاء الضمان المالي، شهدت الصحافة العبرية في تونس عصرها الذهبي وتكاثرت الصحف اليومية والسياسية بشكل ملحوظ. كذلك ظهرت المجلات المتخصصة والصحف المناطقية. وبرزت التوجهات السياسية للصحف بوضوح فبات للحركة الصهيونية صحفها ولليهود الوطنيين صحفهم. وأبصر النور لون صحافي جديد هو الصحافة الهزلية المحترفة. وقد تواصل هذا الازدهار إلى نهاية العشرينيات من القرن المنصرم حين عصفت الأزمة الاقتصادية العالمية بأحلام أصحاب الصحف والمطابع العبرية.
هنا دخلت الصحافة العبرية مرحلتها الثالثة. شهدت الحركة الصحافية تراجعاً واضحاً لتحتجب الصحف من تونس تباعاً. وكان آخر عدد لجريدة عبرية في البلاد قد صدر في مايو 1940. وبعد احتلال ألمانيا النازية لتونس في نوفمبر 1942 وتعرض اليهود لنظام العمل الإجباري، لحقت الصحافة اليهودية الفرنسية بالصحافة العبرية. يقول الأكاديمي التونسي، محمد حمدان، في كتابه "دليل الدوريات الصادرة في البلاد التونسية" أن الصحافة العبرية في تونس كانت "تسعى بالخصوص لتثبيت الهوية الدينية والثقافية لليهود في تونس لترفع بعد ذلك شعارات سياسية وتنادي بإقامة دولة لليهود وتفكر في إستراتيجيات مختلفة لتحقيق هذا الغرض. كذلك كانت أغلب الصحف العبرية متواضعة في إمكاناتها وتمويلها. ولذلك فان حياة معظم العناوين الصحافية كانت قصيرة وأغلبيتها أسبوعية دورية ولم تحترم بالضرورة مواعيد الصدور وكثيراً ما صدرت في أحجام صغيرة وصفحات قليلة لا تتجاوز الأربع". ويضيف حمدان أن "كمية السحب لم تكن تتجاوز الألف نسخة من كل عدد، وكانت جلّ الصحف العبرية تصدر في العاصمة باستثناء بعض العناوين التي ظهرت في جزيرة جربة جنوباً ومنطقة الساحل. ولم تبرز من الصحف الجهوية إلا جريدة "نجمة الساحل" في مدينة سوسة شرقاً لأن صاحبها، مخلوف نجار، كان يملك مطبعة في هذه المدينة".أهم الصحف والمجلات العبرية
في العام 1878، صدرت العمالة التونسية (La province Tunisienne)، وكانت أول صحيفة عبرية في تونس. أسسها إبراهيم طيب وكانت تطبع في مدينة ليفرون الإيطالية. تضمنت الصحيفة نصوصاً باللغة الفرنسية بالإضافة إلى صفحاتها العبرية.
تلتها "المبشر" عام 1884. وهذه أسسها تاجر الكتب اليهودي أليزار فرحي وكانت أول مجلة عبرية تصدر في تونس واهتمت بالفكر والثقافة. وفي العام 1886 أسس جاكوب حايك أول صحيفة عبرية ساخرة وترأس تحريرها الصحافي اليهودي إسحاق تمام وكانت تصدر في أربع صفحات من الحجم الكبير بسحب تجاوز الـ400 نسخة أسبوعياً. وفي العام نفسه أسس اليهودي شالوم حداد صحيفة أدبية ترأس تحريرها الصحافي إسحاق قطان وكانت تصدر ثلاث مرات شهرياً. ثم في يونيو 1889، ظهرت أول جريدة عبرية يومية في تونس هي "التلغراف". أسسها الناشر اليهودي مسعود معرك وأشرف على إدارتها كوهين غنونة. غير أنها لم تعمر إلا سنة واحدة بسبب المشاكل المادية التي واجهتها. وفي العام 1904، أصدر الصهيوني مناحيم بلعيش أول صحيفة عبرية ذات توجه صهيوني تحت عنوان "الاتحاد" ولكنها توقفت عن الصدور بعد شهرين من تأسيسها. ثم توالت على الظهور في الساحة الصحافية التونسية العشرات من العناوين منها "الشمس"، و"البدر الكامل"، و"منور الحق"، و"فاضح الأسرار"، و"المرسطان"، و"النصرة"، و"هنصيم"، و"خزانة الغرام"، و"خلط ملط"، و"حسن الخلق"، و"الحكيم كبيون"، و"التجارة التونسية"، وغيرها من الصحف التي لم تعمّر طويلاً واختفت من الأسواق بسبب المشاكل المالية أو الصراعات بين أعضاء هيئة تحريرها أو فرض السلطات الفرنسية حالة الطوارئ ومنعها صدور كل الصحف والمنشورات.أعلام الصحافة العبرية التونسية
بظهور الصحف العبرية في تونس، برز كتاب وتجار يهود عديدون. فقد شكل التجار اليهود العمود الفقري للصحف العبرية منذ نشأتها إلى اندثارها. فأغلب الصحف كان ناشروها تجاراً اعتمدوا عليها في الترويج لسلعهم أو لضرب خصومهم في السوق أو للتقرب من أبناء الطائفة اليهودية ومن المرجعية الدينية اليهودية في البلاد وذلك من خلال حمل "لواء التعريف بالثقافة اليهودية". وقد تركز نشاط هؤلاء في سوق "القرانة" في قلب العاصمة القديمة.
وقد خرجت أغلبية الناشرين والصحافيين العبريين من الطبقة المتعلمة تعليماً حديثاً في مدارس "الرابطة الإسرائيلية في تونس" ومنهم سالمون شمامة وهنري معرك وموسى سيتبون وألي غازي وجاكوب كوهين. وكانت مجموعة أخرى من الناشرين والصحافيين من أصحاب التكوين العصامي، وأشهرهم العامل في إحدى المطابع، سيماح ليفي، الذي يعد رائد الصحافة العبرية الثقافية في تونس. ولد ليفي في تونس في العام 1868 واشتغل عاملاً بسيطاً في مطبعة "فنري" بين العامين 1889 و1891 ثم أسس مكتبة ومطبعة "العالمية" عام 1892. يعدّ الناشر والصحافي اليهودي الأكثر إصداراً للصحف باللغة العبرية في تونس، فقد أصدر 14 صحيفة ومجلة ثقافية من 1885 إلى 1912، واهتم بنشر الثقافة اليهودية المحلية وبالتعريف بالمعابد اليهودية في تونس وبطقوس الحج السنوي في معبد الغريبة في جزيرة جربة جنوب شرق تونس.الصحافة الصهيونية العبرية
منذ دخولها إلى تونس بداية القرن العشرين، سعت الحركة الصهيونية إلى نشر دعايتها عن طريق الصحف. فأنشأت صحفاً ومجلات باللغة الفرنسية والعبرية. وجمعت حولها عدداً من المتحمسين لفكرة الدولة اليهودية، بينهم صحافيون وناشرون وتجار حتى تحوّلت إلى التوجه الأكثر حضوراً في الصحف العبرية خاصة بين الحربين العالميتين.
وقد ظهرت خلال هذه الفترة العشرات من الصحف العبرية ذات التوجه الصهيوني، منها جريدة "الاتحاد" التي أصدرها مناحيم بلعيش عام 1904، وجريدة "الفجر" التي ظهرت عام 1911 على يد مردوخي أوزان وأدار تحريرها الصحافي اليهودي كسكاس ماير وعرّفت عن نفسها في صفحتها الأولى بأنها في "خدمة المصالح الإسرائيلية في شمال إفريقيا"، ومجلة "صوت صهيون" وأسسها عام 1913 سوفر ستروك وترأس تحريرها جوزيف برامي وكانت تصدر شهرياً عن التنظيم الصهيوني بتونس. ثم صدرت صحف عدة منها "مبشرات صهيون" و"الإنسانية" و"التمدن". وصدرت عام 1922 جريدة "الوطن" الأسبوعية، لسان حال ما يعرف بـ"الصهاينة العامين"، ولكنها توقفت بعد إصدارها 98 عدداً. كذلك أصدر التاجر اليهودي المعروف بحماسته للحركة الصهيونية، ناطان غربي، جريدة نصف شهرية، عام 1921، تحت اسم "صدى المهدية" نسبة لمدينة المهدية على الساحل الشرقي التونسي.صحف متخصصة وصحف يسارية
في مقابل صحف الحركة الصهيونية، ظهرت بعض الصحف المتخصصة في الاقتصاد والتجارة، بحكم النشاط اليهودي الكبير في هذا القطاع، كجريدة "التجارة التونسية" التي أسسها جوزيف أوزان عام 1926، وجريدة "اليهودي" الاقتصادية التي أسسها الصهيوني ماردوخ أوزان.
كذلك أصدر اليساريون اليهود صحيفة "الضوء الوهاج" Hror Hagadol في سبتمبر 1911، وقد أسسها فيليكس طيب وأدارها جوزيف سيرو وشعارها "خدمة البروليتاريا اليهودية التونسية". لا يزال تراث الصحافة العبرية في تونس مغموراً ومنسياً. وقد أشار الأكاديمي التونسي، محمد حمدان، في مقدمة كتابه المذكور آنفاً إلى أنه "تم تهريب العديد من مجموعات الصحف العبرية خارج تونس".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...