كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن بابا الفاتيكان والتصريحات التي نسبت له. سادت في الوسائل الاعلامية العربية والأجنبية حالة من الهياج، بين مؤيدين (كثر) ومعارضين، وكأن جل ما ينتظره العالم اليوم هو حركة اصلاحية تطال الكنيسة، تحدث فتحاً جديداً في مسارها وتطورها أو تغير مسارها.
الكثير من رجال الدين المسيحيين كان لهم فهمم الخاص للدين، وتبنوا مواقف إصلاحية، من ضمنهم رجل الدين المسيحي اللبناني المطران غريغوار حداد، أحد أبرز دعاة العدالة الاجتماعية والعلمنة في لبنان. لكن أين رجال الدين المسلمين من هذا الأمر؟
لا شك أنه في العقود الثلاثة الأخيرة، كان الإسلام ملاذاً للدعاة المتطرفين، ولكن هذا لا يعني أن الساحة الإسلامية تخلو من محاولات إصلاحية من بعض رجال الدين المسلمين، لكنها تعرضت للأجهاض.
في عام 1925، أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتاباً بعنوان "الإسلام وأصول الحكم" حينما كان يعمل قاضياً في المحاكم الشرعية. أتم الشيخ عبد الرازق دراسته في الأزهر، ثم أكمل دراسته في جامعة أكسفورد في إنكلترا. بالرغم من وجود عدة فقرات في كتابه يشير فيها إلى مفكرين سياسيين إنكليز، مثل هوبز Hobbes ولوك Locke، إلا أن تأثير الفكر الإنكليزي عليه لم يكن واضحاً. بل نجده أكثر تأثراً بفكر الإمام محمد عبده. وقام في كتابه بدراسة قضية هامة، هي قضية الخلافة والحكم في الإسلام.
فبعد انهيار السلطنة العثمانية وإعلان مصطفى أتاتورك تركيا جمهورية علمانية، أصاب الذعر بعض المسلمين، فدعا الأزهر مجموعة من رجال الدين عام 1926 إلى عقد مؤتمر في القاهرة لبحث هذه القضية. انتهى المؤتمر بقرارات تفيد أن منصب الخلافة ضروري للمسلمين، كرمز لوحدتهم. لكن، لكي يكون هذا المنصب فعالاً، لابد أن يجمع الخليفة بين السلطة الدينية والسلطة المدنية. وهذا أمر لم يكن يتوافر لأي حاكم من حكام المسلمين في ذلك الوقت.
جاء كتاب الشيخ علي عبد الرازق مساهمة منه في هذا الحوار، ليحمل أفكاراً جريئة، متعالية على العواطف في لحظة الضعف التي عمت البلاد الإسلامية حسرة بسقوط الخلافة، فقدم أسئلة شكلت علامة فارقة في النقاش السياسي الإسلامي، وفتح فصلاً جديدًا ربما لم يطرح من قبله. هو يتساءل: هل منصب الخلافة من الإسلام في شيء؟ هل هناك شيء اسمه "نظام حكم" في الإسلام؟ هل الإسلام دين ودولة؟
الأصوات المتصاعدة يوماً بعد يوم والمطالبة باستعادة دولة الخلافة تؤكد أن مشروع علي عبد الرازق الليبرالي قد مني بالفشل. سعى الكثير من النقاد الإسلاميين إلى وصم عبدالرازق بأوصاف من شأنها أن توصد الباب أمام مناقشة مشروعه، فصنفوه بأنه أحد أبرز "دعاة العلمانية"، وأشيع أنه لم يكتب ذلك الكتاب، وإنما وُضع اسمه عليه، والذي كتبه مجموعة من المستشرقين.
ما حصل مع علي عبد الرازق في العشرينات سيتكرر بطريقة أخف مع الشيخ اللبناني عبد الله العلايلي في أواخر السبعينات من القرن الماضي. ذاع صيت العلايلي في مجال فقه اللغة أكثر مما ذاع في فقه الشريعة، على أن إسهامه في مسار التحديث والإصلاح لم يكن مقتصراً على مجال اللغة والأدب وحدهما. بل إن مجالاً آخر أيضاً كان موضع اهتمام الشيخ، وهو مجال الإصلاح الديني، خصوصاً في كتابه "أين الخطأ"؟ الذي صدر في طبعته الأولى في العام 1978، واضطر تحت الضغط الى سحبه من التداول (أعادت دار الجديد طباعته عام 1992). يعتبر الباحث وجيه كوثراني أن آراء الشيخ التجديدية في مجال الفقه الإسلامي لم تحظ بالاهتمام الكافي ولم تشع كما شاعت اجتهاداته اللغوية لأسباب متعددة ومن مواقع مختلفة “من موقع التقليديين والمحافظين الذين سخطوا على الشيخ وحاصروا فكره الفقهي وحاربوه، وربما من موقع الحداثيين الذين لم ينتبهوا في غضون الستينات والسبعينات، إلى أن الحداثة الأوروبية في مسارها التاريخي بدأت بإصلاح ديني وتطوير في العقليات والذهنيات والمناهج. غاب عنهم هذا الهم الأخير وأغفلوا من حاول التجديد في مجال الفقه واهتموا بمجالاتهم واختصاصاتهم الخاصة وحسبوا أن "الرجعية الدينية" تتراجع وحدها "بتقدمهم" وحدهم”.
اجتهادات العلايلي تشمل الكثير من الآراء التي تحاول أن تواكب التحديات المعاصرة في كثير من الميادين العملية والمفاهيم النظرية: في مفهوم الثروة والرؤية العلمية للقمر الرمضاني والربا وتوزيع الأضاحي، الزواج المختلط والصورة والسينما. كان العلايلي يلقب بـ"الشيخ الأحمر" وساهم في تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي، ويذهب الى السينما ككل مواطن عادي. لكن تجربته الرائدة لم تعمم.
سرق المتزمتون الدين الإسلامي على مدى عقود وتوقف الإصلاح، إلا فيما ندر مع بعض العقول الأزهرية العقلانية التي لا تحب الظهور، وبعض المعممين الإصلاحيين الذين يخفون أفكارهم تحت أسماء مستعارة. هناك اليوم كذلك رجل الدين العراقي المشاكس، أحمد القبانجي، الذي يتجاوز الجميع في أفكاره اللاهوتية - العلمانية، فهو يفسر الوحي والقرآن على أنه ليس كلام الله، وإنما هو كلام النبي محمد يقوله من ذاته بعد تشبعه بالروح الإلهية، فأخذ يصوغ الآيات بما يعتقد أنها طريقة إلهامية لإصلاح قومه.
أما عن الشريعة، فيقول القابنجي إنها مسخت الإنسان وهي لا تصلح للتطبيق في الزمن الحالي، ويضيف "أن الجنة والنار هي خلاف العقل ولا وجود لها. إن ورود جهنم في القرآن هو لتخويف الإنسان فقط، والوعد بالجنة هو لترغيب الإنسان كي ينجذب إلى الدين والإيمان بالإسلام وبرسوله وكتابه”.
خلاصة نظرية القبانجي هي اتباع العقلانية التي يجب أن تتحكم بالبشر وتنظم حياتهه، وأن الحداثة والتطور أمر مسلم به في الحياة المعاصرة ولا يجب أن نحتكم إلى شريعة كانت صالحة في زمان غابر.سبق أن اعتقلت السلطات الإيرانية القبانجي بسبب مواقفه وتبرأت منه عائلته لأن صاحب عقل غير تقليدي في نظرته إلى الدين والفقه والتشريع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت