لم يعش طويلاً ولكنه أثر كثيراً في تاريخ الجزائر المعاصر. هو الفنان والمناضل الأمازيغي الراحل، معطوب الوناس، الشخصية الأكثر رمزية في الحركة الأمازيغية في الجزائر. "استقر مرتاحاً في قائمة القادة الأسطوريين للشعب الأمازيغي كالكاهنة وأكسيل ويوغرطا وماسينسا"، كما وصفه كاتب جزائري.
أثار الوناس جدلاً كبيراً في حياته وبعد رحيله. حاول بأغانيه إعادة كتابة تاريخ موازٍ للثورة الجزائرية في مواجهة التاريخ الرسمي، ودافع من خلال الفن عن المطالب الثقافية والسياسية للشعب الأمازيغي في "منطقة القبائل"، فنجح حيث فشلت الحركات والأحزاب السياسية.
الثورة تنقلب على الأمازيغ
في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، بدأت الحركة الأمازيغية الجزائرية تبلور أفكارها وتوجهاتها. حدث ذلك حين قررت مجموعة من كوادر وأعضاء حزب الشعب، بزعامة مصالي الحاج، الانشقاق عن الحزب بسبب "عدم اعترافه بالهوية الأمازيغية للشعب الجزائري".
وفي العام 1954، اندلعت الثورة المسلحة ضد المستعمر الفرنسي. شارك الأمازيغ في الثورة ضمن "جبهة التحرير الوطني الجزائرية" وتقلد عدد منهم مناصب عليا في الجبهة سياسياً وعسكرياً وإعلامياً. في هذا المناخ الثوري المتسم بالوحدة الوطنية، ولد معطوب الوناس، في 24 يناير 1956.
نجحت الثورة الجزائرية ورحل المستعمرون عام 1962. حينذاك، تفرغ رفاق السلاح لصراعهم الداخلي من أجل حسم مصير السلطة الجديدة. رفع النظام الجديد بقيادة أحمد بن بلة (1916 – 2012) شعار "عروبة البلد"، متأثراً بالمزاج العربي في تلك المرحلة وبسبب علاقاته مع جمال عبد الناصر الذي دعم الثورة الجزائرية سياسياً وعسكرياً. حتى أن ابن بلة قال يومذاك في خطبة شهيرة: "نحن عرب، نحن عرب، نحن عرب". وترافق الخطاب العروبي للنظام مع سلسلة من إجراءات التعريب القسري لمنطقة القبائل، فمنع استعمال اللغة الأمازيغية في النشاطات الفنية والأدبية وحوكم وسجن كل من اشتبه في انتمائه لحركات ترفع مطالب أمازيغية ثقافية ولغوية.
في تلك الأثناء، كان وعي الصبي معطوب قد بدأ يتشكل من خلال ما يشاهده ويسمعه من الكبار. كتب في سيرته الذاتية التي حملت عنوان "المتمرد": "كنا نعتقد أن فظائع الحرب انتهت مع الإستقلال وهو ما كذبته الأحداث. فبعد سنة فقط اندلعت أعمال عنف بمنطقتنا. انتفض ضباط الولاية الثالثة ضد ابن بلة وأشتدت المواجهات وتعرضت قرانا لتنكيل فاق ما شهدته على يد المستعمر أسفر عن مقتل مئة شخص".
تخلصت السلطة الجديدة من كل قيادات الثورة الجزائرية من ذوي الأصول الأمازيغية، وحكم على أحد زعمائها، الأمازيغي حسين آيت أحمد، بالإعدام عام 1964، ليهرب لاحقاً من السجن ويعيش في المنفى. وحوكم القائد البارز كريم بلقاسم، أحد مؤسسي جبهة التحرير الوطنية غيابياً، لينتهي قتيلاً على يد المخابرات الفرنسية في منفاه عام 1970. لم تربط السلطة علناً بين هذه المحاكمات والإعدامات وبين أصول القادة العرقية، ولكن الأمازيغ استشعروا استهدافاً ممنهجاً من النظام تغذيه أيديولوجيا "عروبية" رسمية وتؤكده إجراءات التعريب القسري التي تعزّزت بعد وصول الرئيس هواري بومدين إلى السلطة بانقلاب عسكري عام 1965.
غناء الهوية والثقافة
متأثراً بالأغاني الشعبية القبائلية وبصوت أمه الرخيم، بدأ معطوب الوناس بالغناء في الأعراس والحفلات الشعبية الأمازيغية. كان يكتب أغانيه ويلحنها بنفسه. وشكلت عودة والده المهاجر في فرنسا إلى الوطن حاملاً إليه قيثارة أجمل هدية تلقاها في حياته، على ما يظهر من كتاب سيرته.
تمحورت أغاني الوناس حول الهوية والثقافة الأمازيغية في مواجهة سياسات طمس هذه الهوية. كان يتغنى بكريم بلقاسم والقائد عميروش، أحد القادة العسكريين للثورة الجزائرية، والقائد عبان رمضان، الذي اغتاله رفاق السلاح، أي بأسماء شكلت يومذاك تابوهات يمنع الاقتراب منها، فالدولة الجزائرية كانت منهمكة في كتابة تاريخ رسمي للثورة يلائم توجهاتها السياسية.
حمل الوناس مشروعاً معاكساً لمشروع السلطة بأدوات فنية. حاول كتابة تاريخ موازٍ للثورة ووثقه بالأغاني التي كانت تنتشر في القرى والبلدات ويفهمها الكبار والصغار، المثقفون والأميون. كانت الأمازيغية بالنسبة له أكثر من أداة تواصل. "الأمازيغية هي لغتي الأم، وكلما نطقت بها أتصور نفسي كما لو أنني أقاوم"، قال. هكذا، تحوّل الوناس إلى صوت الشعب الأمازيغي.
الربيع الأمازيغي وما بعده
في مارس 1980، منعت قوات الأمن الجزائرية ندوة ثقافية كان سيحاضر فيها الكاتب الأمازيغي مولود معمري حول "الشعر في منطقة القبائل قديماً". كانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير، فألهبت فتيل المواجهة الشعبية المباشرة بين الشباب الأمازيغي الغاضب والسلطة. وفي 20 أبريل، غصت شوارع مدن القبائل وعاصمتها تيزي وزو بأكبر تظاهرة شعبية منذ استقلال الجزائر فواجتها الشرطة بالرصاص الحي وسقط عشرات القتلى والجرحى في ما عرف بـ"الربيع الأمازيغي".
قبل ذلك، كان الوناس قد غادر إلى فرنسا وخاض تجربة فنية حقق فيها شهرة بين أوساط الجالية الجزائرية هناك. وسبقت هجرته أداءه فترة تجنيد إجباري عمقت من الهوة بينه وبين النظام إذ يصفها بقوله: "أدركت عبر سنتي التجنيد، أنه لا هدف للجيش سوى تنمية مشاعر الخوف عند الشبيبة إزاء النظام والسلطة".
من باريس تابع الوناس أحداث الربيع الذي انتظره طويلاً. قال: "كنت متوتراً حد السعار لعدم مشاركتي في الأحداث، كنت ممزقاً بين رغبتي الجامحة في أن أكون بين ظهران أبناء منطقتي وبين التزامي الفني. غنيت أمام الجمهور وحرصت على ارتداء بدلة عسكرية حتى أقول إننا نخوض معركة". وكان سبيله لدعم الانتفاضة أغنيته Yahzen El Oued Aïssi التي ذاع صيتها وخلّدت ذكرى الضحايا.
وضع الربيع الأمازيغي أوزاره وتبلورت معه مطالب الحركة الأمازيغية في الاعتراف باللغة الأمازيغية كإحدى اللغات الرسمية ودسترتها ورفع التهميش عن منطقة القبائل اقتصادياً. وردت السلطة باتهامها بالعمالة والتخوين والاستقواء بالأجنبي.
وعام 1988، تجدّدت هذه المطالب خلال الانتفاضة التي عمّت الجزائر ضد نظام الحزب الواحد واحتجاجاً على الوضع الاقتصادي المتردي. كان الوناس حاضراً هذه المرة وسقط جريحاً في محاول اغتيال فاشلة، ليتحول إلى أسطورة أمازيغية تلهب المسارح كلما صعد عليها.
بعد صعود الجماعات الإسلامية في الجزائر ودخول البلاد مرحلة المواجهة العسكرية خلال "العشرية الدامية"، صار الوناس يقاتل على جبهتين: النظام والإسلاميين، شاهراً توجهاته العلمانية والتقدمية. وتميزت أغانيه خلال هذه الفترة بالحزن وتوثيق ما تعيشه البلد من صراع، وأهمها أغنيته في نعي الرئيس محمد بوضياف.
الموت طريق الخلود
تصاعد الصراع في الجزائر وتصاعدت معه حدة انتقادات الوناس، وكان رأيه مسموعاً ومؤثراً في القبائل. لذلك، أصبح رأس الرجل مطلوباً، وقد وضعته الجماعات الإسلامية على قائمتها السوداء. وفي سبتمبر 1994 اختطفته خلية تابعة لـ"الجماعة الإسلامية المسلحة". خرج الشباب الأمازيغي الغاضب باحثاً عن معطوب في أحراش منطقة القبائل وهدّدوا بحرب شاملة ضد العناصر الجهادية المتحصنة في الجبال.
وليلة العاشر من أكتوبر، أطلقت الخلية سراح الوناس تحت وطأة الضغط الشعبي، ليصرح فور خروجه: "إذا كان من الضروري أن أقتل من أجل حماية القيم التي أؤمن بها وليتشبث بها أهلي، لن أنتظر حتى يذبحوني. لست ممن يهوى الشهادة لأدخل جنة تجري من تحتها أنهار من عسل وحليب. أريد الدفاع عن نفسي. المقاومة دفاع مشروع يتطلب وسائل. عجزوا عن كسر شوكتي طيلة 15 يوماً من الاعتقال والآن سأؤكد لهم بل سنؤكد لهم أننا أقوى منهم. لا أحد بمقدوره الوقوف في وجهنا. معركتنا عادلة ونبيلة. أقسم بذلك".
وكان الوناس، رداً على اتهامه بالانفصالية، قد ترجم النشيد الوطني الجزائري إلى اللغة الأمازيغية محافظاً على اللحن نفسه. والطريف أن كلمات هذا النشيد بالعربية ألفها الشاعر الأمازيغي مفدي زكريا.
في 25 يونيو 1998، استقرت في جسد معطوب الوناس 78 رصاصة في ضواحي مدينته تيزي وزو. رحل بعد أن أفلت من الموت عشرات المرات. اتهمت السلطات الجزائرية الجماعة الإسلامية المسلحة بالوقوف وراء الحادثة وتبنت هذه الأخيرة العملية في بيان لها. ولكن عائلته شككت في الرواية الرسمية.
تحول الوناس إلى أيقونة أمازيغية. الكاتب الأمازيغي، نايت عبد الرزاق، قال لرصيف22 إن الوناس أصبح بعد رحيله "غيفارا القبائل واستقر مرتاحاً في قائمة القادة الأسطوريين للشعب الأمازيغي عبر التاريخ كالكاهنة وأكسيل ويوغرطا وماسينسا. وقد تحول ضريحه إلى مزار يتعاملون معه ويتبركون به كما يتعاملون مع أضرحة الأولياء الصالحين".
نشر الموضوع على الموقع في 22.05.2015
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت