أهلاً بكم في مصر الجديدة. أهلاً بكم في مصر دولة الأخلاق. اليوم، لا مكان على هذة "الأرض المباركة" لملحد أو بائعة جنس أو لمثليّ. فمصر لن تكون إلا مكاناً لـ"المنضبطين أخلاقياً".
متابعة الإعلام المصري في الفترة الأخيرة تؤكد أن "دولة الاخلاق" قادمة لا محالة. تتصدّر اهتمامات الصحف والبرامج الحوارية ثلاث قضايا، هي أخبار القبض على المثليّين والملحدين وبائعات الهوى.
مصر تحارب الإرهاب والرذيلة
تذكّرنا الأجواء السائدة بشعار التسعينيات من القرن الماضي: "مصر تحارب الإرهاب". ولكن الآن أضيف شقٌّ ثانٍ على الشعار الشهير فصار: "مصر تحارب الإرهاب والرذيلة".
تتعدّد التحليلات حول أسباب هذا الخطاب الأخلاقي المستجدّ. لكن يبقى أوضحها وأكثرها دلالة هو ما قالة ابراهيم عيسى، الصحافي المقرب من أوساط الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حين وصفه بالرئيس الأخلاقي."تشعر السلطة المصرية أن الثورة أفسدت النظام العام في مصر وأطلقت العنان لاعتراضات المواطنين وأنه آن الأوان للعودة إلى الاستقرار. وعليه يجب محاربة الأفكار المغايرة والتنكيل بمعتنقيها"، يقول لرصيف 22 عمرو عبد الرحمن، رئيس وحدة الحريات في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. ويضيف: "تسعى الدولة إلى إعادة الانضباط إلى الشارع، ومن المنطقي أن توجه ضّربات إلى من يعصون أوامرها. هذه الضربات، وإن بدت متناقضة، تصبّ في المسار نفسه، فنجدها تحارب تيار الإسلام السياسي لكنها في الوقت نفسه، تحارب الانفتاح وتضيق الخناق على الحريات الشخصية، وكلا المسارين يمثلان خروجاً عن الانضباط وفقاً لتعريفات السلطة الحاكمة".
من ازدراء الأديان إلى ازدراء الملحدين
في أغسطس 2013، أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تقريراً يرصد قضايا ازدراء الأديان في مصر بين عامي 2010 و2013. ووفقاً للأرقام الواردة فيه، يمكننا بسهولة تبيّن انتشار ميل واضح لمحاربة الأفكار الدينية المغايرة بعد ثورة 25 يناير وإبان حكم المجلس العسكري. ففي العام 2011 رصد التقرير 3 قضايا ازدراء أديان فقط، أما في العام 2012 فالرقم ارتفع إلى 12 قضية، وفي العام 2013 إلى 13 قضية.
تعليقاً على مسألة إزدراء الأديان، يقول عمرو عبد الرحمن: "في النصف الثاني من السنة الجارية، أي عندما بدأت ملامح دولة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تظهر، حدث تغيّر نوعي في القضايا. فأثناء حكم الإخوان كانت غالبية القضايا تشمل أقباطاً وشيعة، أما أخيراً، فقد تحولت إلى قضايا تشمل الملحدين. إن عدد القضايا التي تظهر العداء للأفكار المغايرة ثابت تقريباً ولكن النوعية اختلفت باختلاف توجهات النظام الحاكم".
وعلية فمن غير المستغرب أن تفاجئنا دار الإفتاء المصرية ببيان تعلن فيه أن عدد الملحدين في مصر 866 ملحداً، مع العلم أن لا إحصاء دقيقاً إلى اليوم لعدد الأقباط المصريين.
في القانون المصري، يُعدّ "ازدراء الاديان" جريمة وفقاً للفقرة واو من المادة 89 من قانون العقوبات التي تنص على أنه "يعاقب بالحبس مدّة لا تقل عن ستة أشهر ولا تتجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل 500 جنيه ولا تتجاوز ألف جنيه كل من استغل الدين في الترويج بالقول أو بالكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة يقصد بها إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو إحدى الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية".
وُضعت هذه المادة في عهد الرئيس الراحل أنور السادات أثناء الاحتقان السائد بين الأقباط والمسلمين في منطقة "امبابة" في القاهرة، وكان الهدف منها حماية الأقباط من التعديات أو من ازدراء عقيدتهم. لكن المدهش، يقول إسحاق ابراهيم، مدير قسم حرية المعتقد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، "أنها لم تستخدم يوماً لحماية الأقباط! بل العكس استخدمت للقبض على الأقباط والشيعة".
الدولة الفاضلة
من ناحية ثانية، لا يختلف الأمر كثيراً في ما يتعلّق بالقضايا الجنسية، سواء كانت قضايا مثليّة أو دعارة. يقول سكوت لونغ، الكاتب الأمريكي المقيم في القاهرة، والمهتم بقضايا الحريات، لرصيف22: "هناك توجّه للدولة بالتضييق على الحريات. بل يمكننا القول إن حكومة السيسي تسعى لتوظيف قضايا المثليّين سياسياً".
في رأي لونغ " إن النظام يريد القول إنه أخلاقي أكثر من الإخوان المسلمين، وإن اتهامة بمحاربة الدين ليس صحيحاً، بل بالعكس هو حريص على الدين والأخلاق أكثر من خصومه الإخوان، فيعلن للناس: "أنظروا أنا أحارب كل من يخالف القانون سواء كانت المخالفة سياسية أو أخلاقية كقضايا المثلية والإلحاد والبغاء".
ويشير لونغ إلى بُعد آخر في ما يجري أخيراً هو بُعد العمل على إعادة استتباب الأمن. يقول: "الأمن تقريباً اختفى من الشارع ثلاث سنوات، وعودته يجب أن تكون مدوية ومصحوبة بقضايا رأي عام، ولا شيء يثير اهتمام الناس أكثر من الجنس. لذا من مصلحة الشرطة أن تبرز دورها في مثل تلك القضايا، وتشجع الإعلام على تسليط الضوء عليها. علماً أن أغلبية وسائل الإعلام في مصر تعمل بالتنسيق مع السلطة".
كعكة الإعلانات
أما أحمد رجب، مدير تحرير موقع "المصري اليوم"، فيتناول الخطاب الأخلاقي من زاويتين. يربط الأولى بـ"كعكة الإعلانات" التي تتنافس عليها الفضائيات، ويقول: "اليوم، مع الانخفاض النسبي لسقف الحريات بعد إحكام السيسي قبضته على الحكم، أصبحت الإثارة هي الكلمة السرية التي تجذب الجمهور لمشاهدة البرامج التلفزيونية. وهذا ما يترجم مزيداً من الإعلانات. ومعروف أن ما يُناقش مساءً في برامج "التوك شو" تجد صداه صباح اليوم التالي في الصحف".
والزاوية الثانية التي يشير إليها رجب هي "أن الصحافة وبخاصة في البلاد القمعية ليست منفصلة عن السلطة، وحين تجد رأس الدولة دائم الحديث عن الأخلاق، فلا تتعجب من إيجاد من يلتقط الإشارة ويعدل لغته متبنّياً الخطاب الجديد". "الجنرلات بطبيعتهم محافظون"، يقول تامر وجيه الصحافي والمحلل السياسي.
يختصر وجيه الموقف في مصر قائلاً: "نعم هناك موجة أخلاقية أو لنقل خطاب أخلاقي يسود ويتمثل بالهجوم على الملحدين والمثليين والحريات الفردية بشكل عام. ونعم لهذا بُعد سياسي. لكن يجب ألا ننسى أن من يديرون البلاد الآن هم حفنة من الجنرلات المحافظين، وأنهم يجنحون إلى حب الانضباط. وعليه، هم ضد كل ما يخالف الانضباط، وضد كل الحريات لا السياسية فحسب بل الشخصية أيضاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...