بعد أكثر من 12 سنة على سقوط نظامه، وأقل بقليل من 9 سنوات على إعدامه، لا يزال الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين فاعلاً في أحداث العالم العربي. ديكتاتور العراق السابق رحل ومحازبو بعثه يكادون يندثرون، ولكنه بقي حياً وبقوّة من حيث لا ينتبه كثيرون: من خلال نموذج إسقاط حكمه.
لعل صدّام كان من أكثر الزعماء العرب إثارة للجدل. حتى الآن لا يزال كثيرون يتداولون تصريحاته ضد الرئيس السوري السابق حافظ الأسد وضد آيات الله الإيرانيين وضد أمريكا وإسرائيل ودول الخليج. مواقفه يرددها أشخاص لا شيء يربطهم بالبعث العراقي. هو معجم صدّام حسين للبروباغندا وفيه يمكن العثور على كل شيء، من فكرة "معركة القادسية" التي تصلح للاستخدام بمواجهة المدّ الإيراني إلى فكرة "خائن الحرمين الشريفين" التي تستخدمها شرائح واسعة معادية للمملكة العربية السعودية.
ليس أفضل من تشبيهات صدّام حسين لمن أراد اللغو. لهذا تستخدم عباراته جماعات متباينة الأهداف، من داعش وصولاً إلى الليبراليين ومروراً بالعروبيين ومحبّي الثورة الإيرانية. ولكن الرجل لم يترك أثراً فقط من خلال إرثه في الحكم. الأثر الأكبر الذي تركه، والذي نعيش الآن عاقبته، تركه من خلال شكل سقوط نظامه، والمفارقة أنه ليس هو المسؤول عن ذلك. لم يعد العرب قادرين على تخيّل الثورات وتغيير الأنظمة إلا وفق النموذج العراقي وهم الآن يدفعون فاتورة قاسية لعقمهم السياسي.
تاريخياً، كانت علاقة العرب بفكرتي الثورة والتغيير ملتبسة. كل ما سمّاه العرب ثورات كان مجرّد انقلابات عسكرية نفذّتها مجموعات ضبّاط عسكريين. من ثورة عبد الناصر إلى ثورات 1958 إلى القذافي في ليبيا إلى ثورات البعثين العراقي والسوري، هذا كان واقع الحال. ولكن، بعد إسقاط صدّام حسين تغيّرت التصوّرات القديمة. صار التغيير عبارة عن يد خفية (مطلوب من الولايات المتحدة أن تكون عصب هذه اليد) تأتي لتزيح الحاكم وتسلّم الحكم لمجموعة منفيين قد يكون جلّهم غير معروفين من الشعب.
أكثر الحراكات العربية قرباً إلى مفهوم الثورة كانت ثورات الربيع العربي. للمرّة الأولى، تصدّر الشعب المشهد. وبرغم أهميتها، فقد استعادت هذه الثورات نسبياً المفاهيم القديمة بأشكال مختلفة ولم تنجح لأسباب متعددة في خلق نموذج جديد بالكامل. وهنا، على سبيل المثال، يمكن اعتبار شعار "الشعب والجيش إيد واحدة" الذي ردّده المصريون حنيناً إلى الزمن القديم، زمن فكرة "ثورات الجنرالات" السريعة والسهلة.
على المستوى السياسي، بدا جلياً أن حركات المعارضة التي واكبت ثورات الربيع العربي كانت أسيرة لنموذجي التغيير اللذين صنعتهما الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق. النخب السياسية (أولى تشكيلات المعارضة) كان تتصوّر أن يداً خفية ستقصم ظهر النظام وتسلّم الحكم إلى "إدارة مؤقتة" أو "مجلس حكم انتقالي" تُرسم معالمه في مؤتمر تستضيفه إحدى العواصم الغربية. لذلك صبّت جهودها على تجميع بعض الوجوه في تشكيلات صالحة للعب هذا الدور، والانتظار.
الدول التي تغير شكل أنظمتها بسرعة خاطفة، كما في تونس ومصر، نجت من محنة الانتظار ولكنها لم تنجح في أكثر من تغيير شكل النظام أو أنها، بشكل من الأشكال، لم تقم إلا بتجديد شرعية النظام من خلال إبراز وجوه جديدة، وهذا ما لم تكتشفه إلا بعد فترة. واللافت أن أنظمة هذه الدول كانت، قياساً بالدول العربية التي استعصى فيها التغيير السريع، الأقل ديكتاتورية وامتازت بأن المؤسسة العسكرية فيها مؤسسة قائمة بذاتها وغير متداخلة مع رأس السلطة السياسية. وبنتيجة ذلك، وُجدت وجوه شعبية سياسية ونقابية استطاعت أن تلعب أدواراً سياسية وتملأ المشهد.
ثم أتى نموذج إسقاط النظام الليبي ليعيد بث الروح في أفكار التغيير المبنية على التجربتين العراقية والأفغانية. أُسقط النظام بتدخل خارجي وسلّمت إدارة البلاد لبعض مَن اصطفتهم الدول الغربية.
انتظرت النخبة السورية كثيراً وصول اليد الخفية إلى بلادها ولكنها لم تصل رغم أنها، منذ بداية الحراك السوري، سارعت إلى خلق تنظيم يصلح لأن يلعب دور "مجلس الحكم الانتقالي". لم يغب عن ذهنها للحظة هذا الحلم وجدّدته بعنف الأجواء التي رافقت جريمة قصف الغوطة بالسلاح الكيميائي، وأخيراً جددته عاصفة الحزم. وامتزجت هذه الانتظارية بوهم آخر هو وهم الضابط القادر على قلب الموازين بطرفة عين، فكان أن عاشت فكرة حدوث انشقاق كبير عن الجيش السوري يقلب الطاولة على نظامه أكثر مما كان ينبغي لها أن تعيش.
قبيل الإطاحة بصدام حسين، برز في العراق اسم أحمد الجلبي، رئيس المؤتمر الوطني العراقي. وعام 2003، تحوّل إلى إحدى أبرز الشخصيات السياسية العراقية المواكبة للتغيير الأمريكي. لم يكن أحد يمتلك معلومات عن حجم التمثيل الشعبي الذي يحظى به الجلبي. لذلك، كان يمكنه المسارعة إلى إرسال 700 مقاتل إلى الناصرية، جنوب العراق، تحت اسم "الكتيبة الأولى للقوات العراقية الحرّة"، وأن يولّد انطباعاً بأنه قادر على تسيير جحافل من المواطنين. كان يجب الانتظار بضعة شهور لاكتشاف أن الجلبي لم يكن أكثر من فقاعة، وأن المجتمع العراقي سيقول كلمته بلا ريب، ويفرز ممثلين حقيقيين عنه.
يمكن الركون إلى حالة الجلبي للحديث عن ضرورة ارتباط النخبة السياسية بالشعب. امتياز الحصول على تغطية إعلامية واسعة لا يصنع شخصيات قادرة على الفعل. لا بد من العودة إلى الشعب والعمل مع الناس خاصةً إذا ما كنّا نتحدث عن ديمقراطية.
كان يمكن استخلاص الكثير من الدروس من التجربة العراقية. على الأقل كان يمكن التنبّه إلى العدد الكبير من النجوم العراقيين الذين تبيّن أنهم فقاعات لا صلة تربطهم بالمجتمع العراقي وتوازناته. وربما كان الأجدر الافتراض أن معمعة التغيير في العراق لم تنته مع سقوط صدام حسين بل بدأت معه. وها هو المجتمع العراقي لا يزال غير قادر على توليد التوازن الملائم لعيش العراقيين بسلام.
ولأن رهان المعارضة السورية على سقوط النظام لم يربح، كان أن تعرقنت سوريا قبل سقوط النظام. ولو كان النظام قد سقط سريعاً، فما من شيء يمكن أن يؤكد لنا أن ما نشهده الآن ما كان ليحدث. إنه باختصار انتقام المجتمعات من النخبة السياسية، إنه انتقام "التحت" المجهول من "الفوق" الذي يلقي خطباً من منصات الفنادق. ربما يجب العودة إلى كلاسيكيات الأفكار الثورية لكسر بعض الأوهام المنتشرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون