منذ اندلاع الصراع بين الجيش التونسي والجماعات الجهادية المتحصنة بجبل الشعانبي، غرب البلاد، لا يظهر في المشهد سوى ضحايا الكمائن والعبوات والألغام من عناصر الجيش، وأخبار القصف الجوي والمدفعي المتواصل، وجثث الجهاديين المتفحمة وأشجار الجبل التي تحولت إلى فحم وهشيم. ولكن، خلف هذا المشهد، هناك مشهد ضحايا آخرين لهذا الصراع وضعهم القدر داخل حيّز جغرافي ضيّق يعاني سكّانه الحرمان. هؤلاء هم أبناء الجبل.
في أبريل 2014، أعلنت السلطات التونسية جبل الشعانبي وبعض المناطق المتاخمة له مثل جبال السمامة والسلوم والمغيلة، منطقة عمليات عسكرية مغلقة. وبذلك، صار على كلّ من يريد الدخول إليها الحصول على ترخيص مسبق من السلطات العسكرية.هذا القرار حرم العشرات من العائلات الفقيرة، التي تعيش على سفح المنطقة الجبلية، من مصدر رزق يتيم كان الجبل يوفّره لها من خلال بضعة نشاطات كرعي الأغنام وجمع الحطب وبيعه في الأسواق... ما حدث هو أن أهالي تلك المنطقة وجدوا أنفسهم دون أي "سند اقتصادي" في ظل تخلي الدولة عنهم. وقد أضيفت تعقيدات جديدة على تعقيدات حياتهم الناجمة عن غياب أدنى مقومات العيش. وهو ما تعكسه طبيعة الدور التي يسكنون فيها والمياه التي يشربونها والطرق الوعرة التي يسلكها أبناؤهم إلى المدارس البعيدة.
توثيق المعاناة بالكاميرا
وفي غمرة السيل الإعلامي عن الصراع العسكري، والتحاليل المعقّدة حول تكتيكات الجماعات الجهادية والجدل الدائر في شأن أسباب الإرهاب ودوافعه، تسلل عبد السلام الهرشي ورفيقه أزر المنصري حاملين كاميرا صغيرة إلى القرى النائية المحيطة بالمنطقة الجبلية بالشعانبي، وهي قرى تابعة لمحافظة القصرين، غرب تونس، على الحدود مع الجزائر، وذلك لتصوير الجزء الغائب من المشهد. هكذا عادا بفيلم قصير بعنوان "أهُم أهُم" يوثق معاناة الأهالي في المنطقة.
يروي عبد السلام الهرشي، أحد مخرجيْ الفيلم لرصيف22 ما شاهده في سفح الشعانبي: "تنقلنا بالكاميرا إلى منطقة العواجة المحاذية لجبل السلوم. وجدنا ما يقارب عشرة منازل متفرقة، سكانها أوضاعهم صعبة جداً، لا يملكون طريقاً يوصلهم إلى وسط محافظة القصرين، يشربون من بئر ملأى بالحشرات، حتى أن صديقي أزر حين شرب من مائها قبل رؤيتها من الداخل، جراء العطش، أصيب بحساسية في ظهره". ويضيف: "سمعنا في هذا المكان النائي قصصاً فظيعة عن المشاكل التي يعانيها أهلها كل يوم جراء عزلهم. بعض القصص علقت بذهني، منها أن رجلاً له ثلاثة أبناء أضطر أحدهم إلى ترك الدراسة لأنه لم يجد مكاناً يتسع له مع إخوته على الدراجة التي تقلهم كل صباح إلى مدرستهم البعيدة. ومنها أيضاً أن طفلاً عمره عامان أصيب بالحمّى الشديدة ليلاً ولم تجد أمه سيارة لتنقله إلى المستشفى فبات ليلته تحت وطأة المرض وعندما وصل إلى المستشفى صباحاً تبين أن الحمّى قد أثرت على دماغه". ويستطرد: "هذا نزر قليل من مآسٍ تتكرر كل يوم، وازدادت بعد عزل السكان عن محيطهم وإنشاء المنطقة العسكرية المغلقة".
جغرافيا الإرهاب والفقر
يقول الباحث التونسي هادي يحمد لرصيف22، " إن الدولة بقدر ما تلقي بثقلها في الحرب على الإرهاب عسكرياً وأمنياً، فإن دورها التنموي يكاد يغيب بالتوازي مع ذلك. من الواضح أن الجماعات الإرهابية التي تتحصن بجبل الشعانبي تستفيد من حزام الفقر المحيط بالمناطق الجبلية وخاصة بمدينة القصرين". ويُذكّر بأن "أول الاحتجاجات على تردّي الأوضاع الاقتصادية، والتي أدت إلى إسقاط نظام بن علي عام 2011 انطلقت من مدينتي سيدي بوزيد والقصرين قبل أن تمتد إلى مدن أخرى في الشمال الغربي".
ويلفت إلى أن هذه المناطق "هي المناطق التي تتحصن في جبالها الجماعات المسلحة، فجغرافيا الإرهاب هي ذاتها جغرافيا الفقر في تونس. هذه الجماعات المسلحة تستفيد من ارتفاع معدلات الفقر والبطالة في هذه المناطق من خلال عملها على تحويلها إلى حواضن اجتماعية لها مستغلّةً مشاعر الغضب على السلطة المركزية وشعور أبنائها بالتهميش".
ويلفت إلى أن الجماعات المسلّحة تنجح في استقطاب عناصر جديدة من أبناء المنطقة إليها وتوكلها بمهمات الصعود إلى الجبال وتقديم الدعم اللوجيستي لمقاتليها المنتشرين هناك. ويقول: "في هذا السياق قُبض على عدد من العناصر القاطنة بالمنطقة كانت تقدم المواد التموينية للجماعات المسلحة مقابل مبالغ مالية ضخمة. والمعلومات الأمنية تقول أن أحد أبرز القادة في الجماعات الإرهابية في جبل الشعانبي، معز الغرسلاوي، ينحدر من حي فقير في مدينة القصرين.
وتفيد المعطيات المتوفرة عنه أن الوضعية الاجتماعية المزرية التي تعيشها عائلته ساهمت في نجاح الجماعات الإرهابية بتجنيده بعد الثورة".
وفي السياق ذاته، أوصت مجموعة الأزمات الدولية في آخر تقاريرها حول الوضع الأمني في تونس، السلطات المحلية في البلاد، بضرورة الاهتمام بالمناطق الحدودية التي يعاني سكانها من إحباط اقتصادي واجتماعي، الأمر الذي أدى إلى تسامحهم مع شبكات التهريب والإرهاب.
وأشار التقرير إلى أن الإجراءات الأمنية، وإن استعملت أشدّ آليات السيطرة، لن تكون قادرة على ضبط الوضع في بؤر التوتر في البلاد، إذا لم تعالج الدولة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المتردية.
من ناحية أخرى، أشار تقرير "مؤشر الإرهاب العالمي" الذي صدر أخيراً عن "معهد الاقتصاد والسلام" إلى أن التدابير الأمنية قد فشلت في القضاء على الظاهرة الإرهابية، وأنه لا بد من تبنّي سياسات طويلة المدى تأخذ في الاعتبار الأوضاع الاقتصادية والفقر الذي يدفع الشباب إلى تصديق الوعود التي تطلقها التنظيمات الإرهابية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.