تستمر محاولات الحكومة المصرية في السيطرة على الفضاء العام تحت مُسمى "مكافحة الإرهاب"، إذ وافق مجلس الوزراء على إدخال تعديلات على القانون رقم (94) لسنة (2015) والمنوط به مكافحة الجرائم الإرهابية، وفقًا لموقع "مدى مصر". تأتي التعديلات في إطارين أساسيين: أولهما هو مصادرة العقارات والأدوات والأموال المستخدمة في تنفيذ جريمة صُنفت بالإرهابية. والثاني هو إجبار إبلاغ أقسام الشرطة رسميًا بهوية مستأجري العقارات، منعًا لاستخدامها في جرائم الإرهاب، مثل صنع المتفجرات والاجتماعات بين أفراد تُعرّفهم الحكومة بالإرهابيين.
وكما هي العادة، يقع تحت سطوة هذا القانون وتعديلاته الأخيرة، أفراد لا ينطبق عليهم القانون، ورغم ذلك، تستخدمه الدولة في التنكيل بهم. في هذا النص، استعرض سريعًا تأثير تلك التعديلات المقترحة على الشابات المستقلات في مصر، كفئة من ضمن فئات كثيرة تتعرض للتهديد غير المباشر من مثل تلك القوانين.
استقلال الشابات وخلخلة النظام الاجتماعي
في خضم الحراك السياسي الاجتماعي الذي شهدته مصر منذ عام 2011، ظهر العديد من الخطابات التي أطلقها أفراد ومجموعات لتعريف أنفسهم/ن اجتماعيًا وسياسيًا. من ضمن هذه الخطابات خطاب الاستقلال الذي بدأته مجموعات مختلفة من الشابات المصريات، ليكون بداية تعريفهن لأنفسهن كأفراد مستقلات عن الأسرة، ووحدة أساسية للنسيج الاجتماعي الاقتصادي. ومن التعريف إلى الممارسة، بدأت هؤلاء الشابات في الانفصال مكانيًا عن الأسرة والعمل، لتوفير حاجاتهن الأساسية، من مأكل ومشرب ومسكن ومواصلات. وبسبب سوق العمل، فإن أجور هؤلاء الشابات غالبًا ما تكون ضئيلة، مقارنة بحاجاتهن، مما يدفعهن إلى مشاركة السكن مع نساء أخريات منفصلات أيضًا عن الأسرة.
في رحلة البحث عن سكن، بالأخص في مدينة القاهرة، تتعرض المستقلات إلى العديد من المضايقات، إذ لا يجدن بسهولة أحياء تقبل نساء يعيشن بمفردهن بعيدًا عن الأسرة، وتكون في مقدرتهن المالية. تتعرض المستقلات لهذه المضايقات، من حُرّاس العقارات، والجيران، وقبلهم مُلّاك العقارات التي يوددن السكن فيها. كل من هؤلاء الأطراف الثلاثة يمارس سلطة اجتماعية تتمثل في مراقبة الشابات المستقلات في أماكن سكنهن تحسبًا لأي مشكلات قد يتسببن بها. فمُلّاك العقارات إن لم يرفضوا استئجار الشابة للعقار بمفردها دون أسرتها، فإنهم يضعون قواعد صارمة لإقامتها في العقار، منها مثلًا فرض حظر تجول ليلي، أو التعليق على ملابسهن، أو منعهن من استقبال الزّوار في العقار، بالأخص الرجال، اعتقادًا منهم أن ذلك يحدُ من حرية هؤلاء النساء اللاتي انفصلن عن الأسرة لممارستها. لا يتردد أي طرف من هؤلاء في التضييق على الشابات المستقلات إن لم يلتزمن القواعد المفروضة عليهن. فإن لم تتم رشوة البواب من حين لآخر، فإنه يستخدم علاقته بمالك العقار للوشاية عن المستأجرة، وهذا ما يجعل إقامتها في العقار مُهددة بفسخ عقد الإيجار في أي لحظة. كذلك يفعل الجيران، فإن بدا أي تصرف غير مقبول من الشابة المستأجرة للعقار، يُسارعون في اللجوء لمالك العقار لطردها. يزداد هذا التضييق إن كانت المستأجرة تُشارك السكن مع أخريات، وإن كانت تستقبل زواراً رجالاً، قد يفهم من خلالها الجيران أن هؤلاء الشابات يستأجرن العقار بغرض ممارسة الجنس التجاري. في هذا الصدد، يأتي قانون تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر رقم (36) لسنة (1981)، الذي يمنع تأجير العقار لأكثر من شخص في نفس الوقت، والذي يستخدمه كثير من الجيران لتهديد مالك العقار بالإبلاغ عنه رسميًا، إن لم يفسخ عقد إيجار الشابات المستأجرات.
دور الدولة في الحفاظ على "الأسرة"
ترجع تلك السلطة الممارسة على الشابات المستقلات إلى اعتبار منزل الأسرة هو المكان "الطبيعي" الذي تعيش فيه النساء، وأن وجودهن خارجه يستلزم أسباباً قهرية، كالالتحاق بجامعة في محافظة أخرى، أو للعمل. أي أن أي سبب بخلافهما، غير مقنع اجتماعيًا لانفصال الشابة عن أسرتها وعيشها بمفردها. في هذا التصور، تأتي الأسرة لتمثل حارس أجسام النساء ومنظّم حرية حركتهن، والمصدر الوحيد لتعريفهن. فالنساء في الوعي الجمعي المصري يُعرفنّ بانتمائهن للأسرة، أكانت ابنة، أو أختاً، أو زوجة. وخلاف ذلك يُعتبر أنه وضع استثنائي، لافت للنظر، ويستدعي التدخل من أفراد ليسوا من الأسرة، مثل الجيران في الأحياء التي تستأجر فيها الشابات، أو يشاركن أخريات في السكن.
هذا التعريف للأسرة لا ينفصل نهائيًا عن الدولة ككيان مؤسس للخطابات الرسمية عن الأفراد. فمنذ دستور (1923) حتى دستور (2014)، تُعرّف الدولة النساء باعتبارهن أفراداً من أسرة فقط. لا يوجد ذكر لأي وضع تكون فيه النساء غير مُعرفّات اجتماعيًا من خلال علاقتهن بالأسرة والعائلة. حتى في المواضع التي تم ذكر النساء غير المتزوجات، كانت من خلال تعريفهن بحالاتهن الاجتماعية، إما أرامل أو مطلقات، أو كبيرات في السن. هذا يُضاف إلى قانون تجريم العمل بالجنس التجاري الذي تم العمل به منذ الستينيات في عهد جمال عبد الناصر. هذا القانون ساهم بشكل كبير في اعتبار كل امرأة لا تعيش مع أسرتها، هي عاملة جنس تجاري محتملة. ما يُفعّل عليها كل من سلطة الدولة، وأفراد المجتمع، تحت لواء الحفاظ على "أخلاق المجتمع"، أو حتى مجرد تجنب أي مشكلات مع الدولة التي بموجب القانون تعتبر مالك العقار شريكًا في جريمة عمالة الجنس التجاري. جدير بالذكر أن بعض مُلاّك العقارات يتجنبون هذه المواقف، بتسليم صورة من عقد الإيجار، وبطاقة الرقم القومي للمستأجرة لأقرب قسم شرطة بشكل طوعي.
ما يفعله خطاب استقلال الشابات، هو خلخلة في صلب خطاب العائلة حيث تتجاوز هؤلاء الشابات ما تقدّمه الدولة ويعتبره مواطنوها، التعريف الأمثل والأوحد للنساء. فبمجرد إعلان الشابة أنها منفصلة مكانيًا عن أسرتها، تتحدى قيماً موروثة عن حرية النساء في الحركة، وحريتهن في أجسامهن، وحقهن في التعريف كأفراد مستقلين عن الأسرة.
لكن الأمر ليس رومانسيًا كما يبدو. فالدولة ومؤسساتها الأمنية تُدرك جيدًا هذا التحدي وهذه الخلخلة للنظام الاجتماعي التي تشرف عليه من خلال الدستور والقوانين. عام 2016، في مدينة الإسكندرية، تم الإبلاغ عن اختفاء ثلاث شابات. وبالفعل وجدتهن الشرطة وسلمتهن قسريًا لأفراد أسرتهن. في ظل غياب تام لقانون يُجرّم العنف الأسري، فإن هؤلاء الشابات سواء كان دافعهن الاستقلال أو الهروب من عنف منزلي يتعرضن له من أفراد الأسرة، فإن ذلك لم يشغل بال الأجهزة الأمنية التي استغلت الواقعة لتبييض وجهها أمام الرأي العام، باعتبارها المُحافظ على وحدة الأسرة.
في رحلة البحث عن سكن، تتعرض المستقلات إلى العديد من المضايقات، إذ لا يجدن بسهولة أحياء تقبل نساء يعيشن بمفردهن بعيدًا عن الأسرة، وتكون في مقدرتهن المالية. تتعرض المستقلات لهذه المضايقات، من حُرّاس العقارات، والجيران، وقبلهم مُلّاك العقارات التي يوددن السكن فيها.
إن لم يرفض مُلّاك العقارات استئجار الشابة للعقار بمفردها دون أسرتها، فإنهم يضعون قواعد صارمة لإقامتها في العقار، منها مثلًا فرض حظر تجول ليلي، أو التعليق على ملابسهن، أو منعهن من استقبال الزّوار في العقار، بالأخص الرجال.
هذا يُضاف إلى قانون تجريم العمل بالجنس التجاري الذي تم العمل به منذ الستينيات في عهد جمال عبد الناصر. هذا القانون ساهم بشكل كبير في اعتبار كل امرأة لا تعيش مع أسرتها، هي عاملة جنس تجاري محتملة.
قانون مكافحة الإرهاب: مُخبر في كل منزل
ما تطرحه التعديلات المقترحة لقانون الإرهاب، هو أنها تحوّل حياة بعض الشابات المستقلات إلى تهديد أمني مستمر. لأن الإجراء الطوعي لإعلام الشرطة بهوية المستأجرين، أصبح إجبارياً ومنصوصاً عليه قانونًا.
فبخلاف المضايقات التي ذكرتها، فإن كانت أسرة الشابة غير راضية تمامًا عن انفصالها مكانيًا، وأبلغوا عنها أنها مختفية أو مختطفة، فإن التعديلات تُسهّل مهمة الشرطة في البحث عن هؤلاء الشابات، وتسليمهن لأسرهن بالإكراه دون رغبتهن، كما حدث في الإسكندرية قبل ثلاث سنوات. كذلك، يُعرّض الشابات لخطر الإبلاغ عنهن تحت زعم الإرهاب، من خلال أي شخص غير راضٍ عن استئجارهن للعقار، سواء كان حارسه، أو مالكه، أو الجيران.
بهذا يصبح قانون مكافحة الإرهاب مطاطاً، يمكن استخدامه ضد الشابات المستقلات في أي وقت، ومن أي شخص، مع الوضع في الحسبان أن الدولة المصرية لا تتردد ثانية واحدة في تقديم نفسها كحارس للأخلاق والقيم، والذي يدفع ثمنه أفراد لا يلتزمون بالنظام الاجتماعي الذي تحدده وتشرف عليه الدولة، من مختلفي الهويات والميول الجنسية والجندرية، وعاملات الجنس التجاري، والأفراد النشطين سياسيًا، وأخيرًا الشابات المستقلات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 8 ساعاتلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري