ليس هذا المقال رؤية تعميمية تفرض جانبًا واحدًا في ما يتعلق بالمؤثرات التي تغير سلوكيات الأفراد بالقرن الواحد والعشرين وتؤدي للتأسيس لفعل التحرش، بل أكثر من ذلك كرأي أو مراقبة بسيطة لأحدى الصناعات الواسعة الانتشار حاليًا والتي ساهمت بشكل أو بآخر بعملية شحن عشوائية للاوعي الفرد أدّت لتغيير النظرة للجسد بشكل عام؛ وهي الصناعة الإباحية.
لا يمكن إغفال مدى زيادة الهوس الجنسي لدى الأجيال الجديدة أو حتى الأجيال التي سبقتها ممن يتعاملون بشكل يومي مع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
بدأت المواقع الإباحية على شبكة الإنترنت كما بدأت الصناعة الإباحية بالسبعينات، جمهور متنامٍ؛ إعادة إصدار لأفلام قديمة وتدويرها ومحتوى مباشر. لكن عكس مسيرة الأفلام الإباحية على شرائط الفيديو وفي دور العرض، فإنها وجدت لها جمهورًا أوسع هي والمطبوعات، وهذا ما ساهم في تنامي الصناعة، فقد خرجت بشكل كبير من أي منافسة مع أي محتوى آخر في مجال رحب واسع.
المواقع الإباحية المجانية صاحبة الإقبال الاكبر، تحصد يوميًا مشاهدات بالملايين، خاصة مع انتشار تجارة الإعلانات التي أتاحتها منصات كثيرة، مثل "إعلانات غوغل"، والتي جعلت قطاعًا كبيرًا من المحتوى مشاعًا بشكل أوسع دون خسائر تجارية.
بموجب هذا التطور، أصبح أي مستخدم في عصرنا هذا يمتلك جهازًا صغيرًا متصلًا بشبكة الإنترنت حتى وإن لم يصل إلى الجيل الذي تحدث فيه تغيرات بيولوجية جسدية تتيح له التجاوب بشكل طبيعي مع ذلك المحتوى، متاحًا له أن يتصفح تلك المواقع بحرية تامة، مما ينشىء لديه هوسًا جنسيًا جنونيًا مبكرًا لن توقفه بالطبع ادعاءات شركات المتصفحات الإلكترونية بقدرتها على إتاحة أنظمة مراقبة أبوية كاملة لا توجد بها ثغرة.
هذا الاستهلاك المبكر بالمنطق سيرسخ لفكرة غير سوية تجاه الجسد لأن المحتوى الجنسي بتنوعه كسر نقطة غاية في الأهمية وهي نقطة المثالية التي طرحتها محاولات تجارية سابقة لتسليع الجسد، فنجمات إغراء مثل مارلين مونرو "النموذج الأشهر على الإطلاق" أو غيرها من النجمات الحاليات ممن يظهرن بإعلانات تجارية تربط بين الجسد وشهوات مختلفة، مثل إعلان بيونسيه الشهير لشركة "برجر كينج" الذي تظهر فيه بجسد عارٍ ذهبي خالٍ من الشوائب وكأنه قد دهن لتوه بمادة براقة، بجانبها ساندوتش من البرجر يشتهر به المطعم، وهذا كمثال لربط ذهني واضح بين جسدها والبرجر الذي يشتهر به المطعم دون غيره.
ورغم ذلك الربط الذهني الفج الذي يلعب على الشهوات، إلا أن المستهلك كان يصطدم بجدار هو في غاية الهشاشة؛ وهو أن تلك الأجساد رغم إغرائها، تحمل سمات مثالية كإتساق الجسد واستقامته، بروز الأعضاء بشكل سوي رياضي، وهذا ما يصعب أن يظهر به الجسد العادي دون عوامل خارجية.
لكن المحتوى الجنسي كسر تلك النظرية السابقة، فالانتشار الكبير يطلب إعادة نموذج القصص الكاملة، والتي أصبحت أكثر تنوعًا واختلافًًا ومجاراة للواقع، كما غطى الميول الجنسية المختلفة بشكل كبير بداية من الميول المغايرة، والميول المثلية، والميول التي ترفضها بل تجرمها بعض الثقافات والديانات كالجنس الشرجي والجنس السادي، إلخ.
الأجساد الموجودة بالأفلام أيضًا لم تعد أجسادًا مثالية، بل أنها في العديد من الأحيان كان سر الإقبال عليها هو وجود عدم اتساق بها "من وجهة النظر الفنية بالطبع". أنماط الممارسة وسلوكياتها خرجت من أي قوالب تقليدية، وهذا ساعد عليه انتشار الأشرطة المسربة وأشرطة التصوير المنزلي، وغيرها باختلاف وتنوع الأمثلة.
طبعًا تناول هذه التنويعات وتأثيرها الطبيعي على عقل ناشىء، مثلًا يفترض فيه امتلاك قدر كافٍ من الوعي مناسب لمرحلته العمرية يجعل من المنطقي افتراض استحضار الصورة التجارية الشهوانية عند التعامل مع المرأة أو حتى في وجود جنس مماثل في حالة المرأة أو الرجل إذا لم تكن المعاملة في حالة لا تتيح الفراغ والتفكير الحر.
وهذا نتاج طبيعي لمنطق كسر المثالية الذي بالطبع قد يطرح في عقل المستهلك للمحتوى سؤالاً طبيعيًا هو: ما الذي لا يجعلني أتخيل نفسي مكان من أشاهدهم، بل لمَ لا أتخيل أجساد المحيطين؟
ربما لأنني أتناول التعامل مع المحتوى الإباحي من نقطة مجردة تحلل علاقة المستهلك المباشرة بالمنتج قد يرى الأمر وكأنه مبالغ فيه، لكن بنظرة عشوائية بسيطة على محتوى التدوين اليومي للمشاهد العادي فسنجد اختلاطًا كبيرًا بين المشاهدات الجنسية وظواهرها المختلفة ومحتوى التدوين اليومي المختلف.
فلنأخذ أهم المواقع التي تتيح التدوين اليومي والتعبير عن الأفكار المتجددة كفيسبوك وتويتر، والتي تمر بشكل دوري في قالب مرتجل فوري لا يخضع لحسابات الفلترة الطبيعية للمراجعة ولا يخضع في معظم الأحوال لقيود المجتمع أو رقابة الأفراد المحيطين، سنجد تضافرًا كبيرًا بين المحتوى الجنسي برموزه من ممثلين إلى قصص مشهورة أو مشاهد أو مواقف يومية أو نكات تلقائية، وهذا يساعد في رواج ذلك المحتوى بشكل وإيقاع طبيعيين.
لا يمكن إغفال مدى زيادة الهوس الجنسي لدى الأجيال الجديدة أو حتى الأجيال التي سبقتها ممن يتعاملون بشكل يومي مع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
أصبح أي مستخدم في عصرنا هذا يمتلك جهازًا صغيرًا متصلًا بشبكة الإنترنت حتى وإن لم يصل إلى الجيل الذي تحدث فيه تغيرات بيولوجية جسدية تتيح له التجاوب بشكل طبيعي مع ذلك المحتوى، متاحًا له أن يتصفح تلك المواقع بحرية تامة، مما ينشىء لديه هوسًا جنسيًا جنونيًا مبكرًا.
تسليع الجسد بذلك الشكل الجنوني يدق ناقوس خطر حقيقي في وجه أي حملة ستقف أمام رغبة متقدة تتنامى لإباحة كل شيء للمستهلك، حتى لو أدّت تلك الإتاحة إلى العودة إلى سلوكيات حيوانية لن تستطيع أي قوة إيقافها، فنحن هنا بصدد التلاعب مع الغريزة الأقوى بالجنس البشري.
لم تسلم المجتمعات المختلفة من التأثير السلبي لذلك المحتوى وانتشاره، فالمجتمعات المتحررة ستضرب في أسس قيامها، فهي كي تتيح للأفراد الحرية، فإنها تشرطها بشكل حتى ولو لم يستوعب جميع الأفراد بوجود قدر ما من الوعي والثقافة التي تؤدي بالفرد إلى اتخاذ قرارات لا تضر بغيره أو تعتدي على حريته، لكن مع ملازمة تلك المنظومة التربوية التي تهدف لغرس القيم والأسس الأخلاقية السليمة لمحتوى لا تقيده أي سبل رقابة، سيحدث بالتأكيد خلل كبير قد يؤدي إلى تنامي السلوك العدواني تجاه الجسد من الاعتداء بمختلف أشكاله.
هذا بالطبع يفرض الكثير من التحديات أمام منظمات حقوق المرأة المستنكرة لسلوك التحرش والداعية لمناخ أكثر احترامًا للمرأة وجسدها. فالأرضية القوية بشكل كبير مفقودة أمام تدفق المحتوى الإباحي، بتنميتها للاتجاه المتطرف بشكل كبير بما يبث من محتوى معظمه يرسخ فكرة تملك الجسد والميل السادي لفرض الفعل الذي ترفضه كل السرديات النسوية الداعية لتحرر المرأة.
الحل المتاح هو أن تجد الحركات النسوية مساحة لها في الفضاء العام بضخ محتوى مضاد ينشر أفكارها التحررية ويستهدف المنافذ الأكثر انتشارًا إلكترونيًا مكثفًا، وبشكل عام ستحتاج تلك الجهود أعوامًا من التأني والسعي الحثيث لتقدّم صناعات تسليع الجسد المختلفة بشكل جنوني، هذا نضيفه إلى دور الجهات المنظمة لتدفق المعلومات من شركات معلومات كبرى التي من الأفضل أن تراجع موقفها ومسؤوليتها من حرية بث مثل ذلك المحتوى بشكل مطلق.
لن يكون صراع النسوية مع المنطق الذكوري المتفشي في المجتمع هو الوحيد، فالعديد من الأفكار ستطرح نفسها مع سيادة منطق تملك الجسد، لا نستبعد مع الحرية المطلقة وعدم وجود توازن منطقي أن تتنامى في السنوات القادمة الحركات الداعية للبيدوفيليا وأن تملك قاعدة مؤيدين كبيرة، أو غيره من الميول المتطرفة التي ستمثل خطرًا كبيرًا على الأسس السلوكية البشرية السوية.
تسليع الجسد بذلك الشكل الجنوني يدق ناقوس خطر حقيقي في وجه أي حملة ستقف أمام رغبة متقدة تتنامى لإباحة كل شيء للمستهلك، حتى لو أدّت تلك الإتاحة إلى العودة إلى سلوكيات حيوانية لن تستطيع أي قوة إيقافها، فنحن هنا بصدد التلاعب مع الغريزة الأقوى بالجنس البشري.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...