كان اختيارنا ليوم الخميس لنسافر فيه إلى بغداد، ليس إلا من أجل الوصول قبل يوم الجمعة. رغم أنّنا خرجنا في السادسة فجراً، ووصلنا بغدادَ بعد السادسة مساء، لكنّ النوم جافانا. نرغم أرجلنا المتورمة والمتعبة على مطاوعتنا في الخروج من الفندق الذي اخترناه في منطقة البتاوين الغرائبية والمعروفة بطفراتها الجينية. تجوّلنا في المنطقة، ثمّ ارتأينا العودة من أجل الخلود إلى النوم. لكن النوم مازال يصرّ على مواجهتنا، غير أنه استسلم لنا في النهاية.
في الصباح تناول صديقاي الفطور على مهل. دخنّا على مهل، وخرجنا على مهل. ثلاثتنا لبسنا أحذية رياضية، تحسباً للطريق الطويل الذي سنقطعه مشياً على الأقدام. أحد أصدقائي كان قد زار العراق مرّتين سابقاً، بينما الصديق الثاني كان يزوره لأوّل مرّة. خرجنا من الفندق القريب من تمثال السعدون. كانت وجهتنا واضحة في مخيلتنا، وهي الأساس لكي نعيش صبيحة يوم جمعة عراقيٍّ بامتياز.
من شارع السعدون سرنا باتّجاه ساحة التحرير ونصب الحرية الذي وقفنا أمامه نبحث عن التفاصيل فيه. دخلنا وسطَ حشدٍ من الباعة الجوالة وزِحام سوق شعبيّ بالقرب من ساحة التحرير. ومن هنا سيبدأ الخوف الكبير الذي طغى على صديقي. قبض على يدي وهو يتلفّت يميناً ويساراً.
سألنا عن وجهتنا (شارع المتنبي)، فأخبرونا أن نأخذ سيارةً لأنّ الطريق أمامنا طويل. لكننا كنّا على استعداد للسير ساعاتٍ طويلةً. لا تُعرف بواطنُ المدن إلا بعد السير فيها ساعات، مستعيداً كلَّ النّصوص التي تحدثتْ عنها؛ نصوص إخبارية وسرديّة واجتماعية وتاريخية.صديقي الخائف الذي تأكدتُ من وصول خوفه إلى أقصى حدّ، مازال لديه درجة ليرفع من خوفه. أردتُ أن أخفّف عليه، فقلت: حالنا حالُ الناس يعيشون فنعيش معهم، يموتون فنموت معهم. هذه هي نفس الجملة التي سمعتها من أدباء عراقيين في 2004.
مع وصولنا إلى تمثال المتنبّي حيث كان شابٌّ جالساً يغني وتحلّقت حوله فتيات أنيقات وعوائل تحمل أكياسَ كتب، قال صديقي المبتسم والخائف سابقاً: هذه بغداد التي أبحث عنها؛ ناس تمارس حياتها وتنثر الجمال. هذه بغداد، وأحتاج إلى ماء وقهوة وسيجارة.
نحن نسير في التاريخ، فالشّارعُ الذي لم ينتهِ بعد (السعدون)، هو لعبد المحسن السعدون، رئيس وزراء العراق الأسبق. انتهى بنا شارع السعدون لساحة "الخلّاني". وربما جاءت التسمية للساحة من مسجد الخلاني. واتضح لي أنّ هناك صراعاً على صاحب المسجد والشخص المدفون فيه. فللشيعة رأيٌ، وللسنّة رأي. بينما كنّا، كعابرين، مسحورين بالتسمية ووقعها، وبخوف صديقي المتزايد مع اقترابنا من زحام يتناسب مع يوم جمعة بغداديّ.
من ساحة الخلّاني، ومع دخولنا شارع الخلافة، عبرنا من نقطة تفتيش. فتّشونا تفتيشاً سريعاً، والتحمنا بسرعة بحشد من الباعة. كلّ بائع بيده مكبّر صوت وينادي الناس على ما يبيعه، بينما لا تفصل بائع عن الآخر إلا أمتار قليلة. وأحياناً يكاد يصطدم وجهاهما.
هنا لم يعد صديقي يخفي خوفَه. قال: لنعبرْ إلى الجهة الأخرى من الشّارع، حيث ينتصب مبنى إدارة المدينة. كان يثب وثباتٍ طويلة حتى نتخلص من الشارع وباعته. كنتُ أتخيل المبنى الكبير لإدارة المدينة، وإن كان يسمح لكل هؤلاء الباعة بالجلوس أمامه لعرض بضاعتهم؟ وصلنا إلى ساحة الوثبة لنلج إلى شارع الخلفاء، وحين سألنا قالوا لنا إنه شارع الغزل.
صديقي الخائف الذي تأكدتُ من وصول خوفه إلى أقصى حدّ، مازال لديه درجة ليرفع من خوفه. أردتُ أن أخفّف عليه، فقلت: حالنا حالُ الناس يعيشون فنعيش معهم، يموتون فنموت معهم. هذه هي نفس الجملة التي سمعتها من أدباء عراقيين في 2004. فأعدتها على صاحبي، فما كان منه إلا أن يقول: ولكنني لا أريد الموت، ولست مستعداً للموت، ولا يجمعني شيءٌ بهم لأموت معهم. قبضتُ على جملتي قبل أن أطلقها. كنتُ أريد أن أخبره: ولكنني يجمعني بهم الكثيرُ، إذ كلّ واحد منهم يحمل في داخله حقلَ كرز.
في روايته "النوم في حقل الكرز"، يتطرّق أزهر جرجيس لأمٍّ عراقية؛ كانت تحلّق طائراتٌ حربية بارتفاع منخفض، وما كان من الأمّ إلا أن غطّت أذن ابنها، وهي تردّد "برداً وسلاما..."، وطوال الرواية تشعر بوقعِ هذا الأمر أنّ كلَّ عراقيٍّ يكرّر في ذاته، كما كرّرت الأمّ: برداً وسلاما.
وتعيد الرواية لنا تأثيث المكان، خاصة حيث كنا نسير على أرجلنا، حركة الشوارع والناس وسوق الغزل الذي وصلنا إليه. طيورٌ ودواجن وكلاب وأفاعٍ والقليل جدّاً من القطط. وزادت جرعة أخرى من الخوف عند صديقي، بينما صديقي الثاني الهاوي للتصوير ضاعَ بين الناس ملتقطاً لهم الصور، أضافة إلى كائنات أخرى. شعرتُ الآن بحجم الخوف عنده، ولكنّ لا مخرج أمامنا إلا شقّ الحشد وكائناته للوصول إلى نهاية الشارع.
حلّت الظهيرة ونحن نمشي، واجتمع شملنا نحن الثلاث. فجأة صرخ صديقنا الهاوي للتصوير: هذه هي، هذه هي!.. الكنيسة التي فجّروها. ثمّ أطلق ضحكةَ مَن حصل على غنيمة، وركض إليها يصوّرها. كان يقصد كنيسة مريم العذراء وسط شارع الخلفاء. حين التفتُّ نحو صديقي، كان مازال لديه قدرة صبّ المزيد من الخوف على نفسه. قال: ما بال هذا الرّجل يتكلّم عن التفجير ويضحك؟ تفجير وضحك؟! دعنا نخرج من هنا!
زدتُ من وتيرة سيري، ولا أخفي حبّي لسوق الطيور والدواجن والكلاب والقطط وإلخ، أكثر من معرض الكتب. ولكن لو كان أيّ شخص مكاني يرى الخوف المتمثّل في صديقي، لزاد من سرعة سيرِه كما فعلت. وصلنا ساحةَ الأمين، ومنها إلى تمثال الرُّصافي. كدنا نصل الشارعَ الذي قدّمنا سفرنا من أجله، شارع المتنبّي.
لمحتُ قبل دخولنا للشارع روائياً معروفاً، وشاعراً معروفاً، وناقداً معروفاً، وروائياً غير معروف. عرفتهم كلّهم رغم أننا لم نلتقِ. لكنّ وضعَ صديقي كان أخطرَ من الوقوف وتبادل التحية معهم.
وصلنا إلى مدخل المتنبّي، فإذا بصديقنا هاوي التصوير ليس معنا. بعد بحث طال أربعين دقيقة، إذ كلّ هواتفنا فاقدة لشريحة عراقية، وجدنا صديقَنا الضائع. كان واقفاً تماماً حيث وقفت المجموعةُ التي تجاوزتُها مراعاة لظرف صاحبي. وبعد أن تبادل معهم صديقي الخائفُ التحيةَ بسرعة، قال: سأقف على الرّصيف لأدخّن. بينما طال وقوفنا أكثر من نصف ساعة، وقلبي مع المدخّن وما يعتمل في قلبه.
مع وصولنا إلى تمثال المتنبّي حيث كان شابٌّ جالساً يغني وتحلّقت حوله فتيات أنيقات وعوائل تحمل أكياسَ كتب، قال صديقي المبتسم والخائف سابقاً: هذه بغداد التي أبحث عنها؛ ناس تمارس حياتها وتنثر الجمال. هذه بغداد، وأحتاج إلى ماء وقهوة وسيجارة.
جلسنا على الرّصيف بقرب المتنبي، وبعد دقائق جلستْ شابّةٌ باهرة الجمال بجانب صديقي، وطلبت منه سيجارة، فسلّمها السيجارة وهو ينظر إليّ نظرة "تفضّل وشرِّفْنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين