في الروضة، كان يأتي المصوّر، ويأخذ صوراً تذكارية للأطفال في الصّف. وتلك السنة قرّروا أن يقف كلَّ صبيٍّ بجانب فتاة، ويتصوّران كعريس وعروس، وقد أمسكوا بالأيادي. أنا وحدي مسكتُ يدَ صبيٍّ آخر، وأصررتُ على أن نتصوّر معاً.
ذات سهرة موسيقية راقصة لفرَقٍ من منطقة البلقان، في أحد نوادي المثليين الكثيرة في المدينة، ولا أدري كيف اقترب منّي ذلك الشاب الوسيم، الطويل، الأشقر، وسألني: من أيّ بلدٍ أنت؟وصلتُ إلى البيت، ولم يكن هناك أحد. توجّهتُ إلى غرفتي فوراً. بدّلت ملابسي، وأخذت مبلغ ألف دولار كنت قد خبأتُه في خزانتي سابقاً، وغادرت. اتجهتُ بتاكسي مباشرة إلى المطار. هناك على شاشة المغادرة، وجدتُ طائرة تقلع إلى إسطنبول بعد ساعة، ولا حاجة للفيزا. اشتريتُ بطاقة بأربعمئة دولار، وطرت. طرتُ قبل أن تصل واقعة هروبي إلى أبي. كان ذلك في أوائل حزيران يونيو. في إسطنبول قضيتُ الأسبوع الأوّل متنقلاً بين مقاهي الانترنت، إذ لم يكن لديّ ما يكفي من المال للنزول في فندق. هناك حاولت التواصل مع أصدقائي في بيروت، ومع أمّي، لمعرفة ما حصل بعد أن انتشرت قصة هروبي. طبعاً عندما علم أبي من عميد صديق له في المطار بأنني سافرتُ، جنّ جنونه، وصبّ جام غضبه على أمّي، ككلّ الرجال في مجتمع أبويّ ذكوريّ كمجتمعنا. صرخ بها: "إنها نتيجة تربيتك الفاسدة، وتدليلك له." وانهال عليها بالصفعات على وجهها، صارخاً: "لو كنت عرفت كيف تربّينه، لما وصلنا إلى هنا." لكنّ الأمر لم يتوقف على نوبات صراخ وتعنيف، بل طردها من البيت هي وأخي بدون أيّ شيء. هكذا بكلّ بساطة، بعد أكثر من خمس وعشرين سنة من الزواج طردها خارجاً. لم يدعها تأخذ حتى ثيابها، وهي لم تجد من يدافع عنها. حتى الذين أشفقوا عليها، لم يجرؤوا على مساعدتها خوفاً من نفوذه. ولكن حتى نفوذه لم يدم، فبعد انتشار الفضيحة في المدينة خسر والدي الانتخاباتِ، واضطرّ لاعتزال الحياة العامة بعد العار الذي لحق به. فانكفأ يتابع أعماله التجارية فقط، بعدما فقد مكتب المحاماة. تزوّج مرة أخرى، وأسكن زوجته الجديدة في البيت الذي صنعته أمي.. أتعلمين جوليا؟ -يتابع بحرقة-: تزوج من امرأة أصغر مني سنّاً، في الخامسة أو السادسة والعشرين، ولديه الآن طفل صغير." اختنق صوته. شرب من كأسه، وقال: -أتدرون؟ أكثر ما يؤلم في الأمر أن أخي الذي طرد من البيت الذي وُلد وتربّى فيه، وتطلّقت والدته ورُميَت في الشارع، لم يعرف السبب. لقد كان أهونَ على والديَّ كليهما أن يموتا على أن يقولا لابنهما الأصغر بأن أخاه الأكبر "مش طبيعي". سرعان ما عرف عبودي من كلام الناس، وهنا كانت الصدمة الأخرى. لقد ثارت ثائرته، وطلب من أمّي الامتناع عن التواصل معي ونبذي، وهي، خوفاً من أن تفقده هو الآخر، أخذتْ تتكلّم معي سرّاً. عاشت هي وأخي عبد الله في غرفة وحمام في إحدى الضواحي؛ هي بنت العائلة الأرستقراطية وزوجة السياسي المهمّ، وبعد أن عاشت كلّ حياتها في الطبقة المخملية، دون أن تعمل يوماً خارج منزلها. اضطرّت أمي للعمل كسكرتيرة في إحدى الشركات في الضواحي؛ عمل دبّرتْه لها سرّاً إحدى القريبات المتعاطفات معها. في هذه الأثناء، انتقلتُ أنا من العيش في مقاهي الانترنت والأرصفة إلى صوفات المعارف الجدد في أحياء إسطنبول. كان ذلك مهمّاً جدّاً، خصوصاً بعد حوادث التحرّش العديدة، بالإضافة إلى محاولة الاغتصاب التي تعرضتُ إليها." ـ ولكن كيف وصلتَ إلى ألمانيا؟ يسأله أحد الأصدقاء في الحلقة، والذين لم يكونوا على معرفة بالتفاصيل من قبل. ـ ألا نؤجل ذلك لجلسة أخرى؟ كفاية دراما لهذه الليلة. ـ لا يا أحمد! أنت ملك الدراما. أرجوك تابعْ. لا يمكنك أن تتوقف في منتصف القصّة. إنها عادة أحمد، يريدنا أن نرجوه للمتابعة، وإن كان يتحرّق شوقاً للكلام. فهو يريد أن يشعر بوقعِ قصّته على الآخرين، ويتأكد من أنه محور الاهتمام، وكلُّ العيون عليه في المكان.
-وصلتُ برلين، وأدركت فوراً أنني غريبٌ هنا، وعليّ أن أبدأ من الصّفر. كنتُ أعرف شخصاً واحداً في المدينة؛ لا نقود لديّ، لا أحد يعرفني، ولا أحد يعرف اسم أبي، وهذا هو الأهمّ. رغم ألم الانسلاخ عن الجذور، أحسستُ بحرية وانعتاق لم أعرفهما في حياتي من قبل؛ إنه التحرر من القيود التي نولد معها في مجتمع يعرفنا منذ الولادة، ويحصي علينا أنفاسنا، والعبور إلى ذلك المكان الذي لا يعرفنا فيه أحد. مكان جديد لا وقع لاسمِ عائلتي المهمّة فيه على أحد. أنا لا أحد؛ لذا بإمكاني أن أكون أيّ أحد، وكلَّ أحد. أدركتُ بالفطرة أنّه لا عودة، وقلتُ في قرارة نفسي: وداعاً بيروت.
-ولكن، عفواً على المقاطعة يا أحمد، سألتْه نينا، أنت متى أدركتَ أنك مثليّ؟ ألم تخرج في حياتِك في موعد مع فتاةٍ مثلاً؟
ـ تعرفين؟ كنتُ أعرف أنني مختلفٌ منذ كان عمري أربع سنوات. في الروضة، كان يأتي المصوّر، ويأخذ صوراً تذكارية للأطفال في الصّف. وتلك السنة قرّروا أن يقف كلَّ صبيٍّ بجانب فتاة، ويتصوّران كعريس وعروس، وقد أمسكوا بالأيادي. أنا وحدي مسكتُ يدَ صبيٍّ آخر، وأصررتُ على أن نتصوّر معاً.
ـ هه هه، جميل! وما كانت ردّة فعل المعلّمة؟
ـ لقد ضحكوا، وتركوني أتصوّر مع الصبي، فقد كنّا مجرّد أطفال. كان ذلك أوائل الثمانينيات. ولكن حين كنتُ في العشرين من عمري، كانت لديّ صديقة حميمة، وكنّا مخطوبيْن. استمرّت علاقتُنا لسنةٍ أو أكثر. كنتُ أدرك أنني مثليّ، ولكنها كانت محاولةً مستميتةً، جرّبتُ فيها أن أغيّر نفسي.
ـ لكن هل أحببتَ تلك الفتاة؟ هل قبّلتَها؟ هل حدث شيءٌ بينكما؟ أضافتْ نينا مستفسرة.
ـ الجنس أمرٌ سهلٌ جدّاً عندما تكونين في العشرين؛ أمرٌ تلقائي. كنت أمارس معها الجنسَ بشكلٍ عادي. وهي كانت فتاة لطيفة وذكية. نعم، أحببتُها كثيراً، ولكن كصديقة، وليس كامرأة. وعندما أدركتُ أنه لا جدوى من وجودي مع امرأة، أنهيتُ العلاقة. وكان ذلك في مصلحتها أيضا.
ـ هل بحتَ لها بسبب تركِك لها، وإنهاء العلاقة؟
ـ لا. طبعاً لا. لا يمكن! كانت لديّ مشكلة مع ذاتي، فما بالك بمواجهة الآخرين؟ لم أكن آنذاك بذلك النضج والقوة كما أنا اليوم. المسكينة ربّما ظنّت أنني تركتها من أجل فتاةٍ أخرى. عدا عن ذلك أن والدها كان شريكَ والدي في أعماله.
ـ ومانفريد؟ كيف التقيتَ بمانفريد؟
ـ في برلين بدأتُ أهدأ، ووجدت متنفساً في مجتمع المثليين النابض بالحياة والحريّة والإبداع؛ من النوادي إلى المؤسسات والفعاليات الثقافية، حتى الحفلات. انغمست في ذلك العالم، ولأوّل مرّة في حياتي شعرتُ بالانتماء، وبأنني لستُ خطأً كبيراً، وذنباً كبيراً وعاراً كبيراً. شعرتُ بالتقدير، وبأنني جزء من مجموعة قادرة وفاعلة ومحترمة. صار بإمكاني أن أعتزّ وأزهو بنفسي وبإنجازاتي.
ذات سهرة موسيقية راقصة لفرَقٍ من منطقة البلقان، في أحد نوادي المثليين الكثيرة في المدينة، كنتُ مع شلّتي، ولا أدري كيف اقترب منّي ذلك الشاب الوسيم، الطويل، الأشقر، وسألني: من أيّ بلدٍ أنت؟
بعد ساعة وجدتُني راكباً وراءه على درّاجته النارية، لابساً خوذة الرأس، وفاتحاً يدي للرّيح. ثمّ، ونحن نقطع ساحة بوتسدامر بلاتز بسرعة، على الحدود تماماً بين برلين الشرقية والغربية، وجدت نفسي أصرخ بأعلى صوتي: أحبكَ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه