لم يكن طرح فكرة الحوار مع النظام السوري أمراً سهلاً على سكان المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، أياً كان هدف الحوار، سواء إدخال المواد الغذائية إلى المحاصَرين، أو فتح المعابر، أو التوصل إلى اتفاقيات معينة... بل كان مصير مَن يطرح ذلك أحياناً الاغتيال.
ولكن عندما اشتد حصار النظام لمناطق المعارضة، واحدة تلو الأخرى، وتدخلت الطائرات الروسية بكثافة في الأعمال الحربية، اشتدّ تعب أبناء المناطق المحاصَرة وصار الميل نحو التفاوض، أو حتى توقيع "اتفاقية تسليم المنطقة" مطلب الرأي العام.
يقول أحد القائمين على اتفاقية جنوب دمشق: "وزّعنا قبل أشهر من توقيع الاتفاقية مع النظام، ثلاثة آلاف ورقة على السكان لنعرف هل هم ميّالون بالفعل إلى التفاوض مع النظام، وكانت النتيجة أن 76% منهم يريدون التفاوض. كان ذلك قبل حملة القصف الأخيرة التي نفّذتها طائرات روسية، والتي ربما رفعت النسبة إلى ما يزيد عن 90%".
عشرات الاتفاقيات جرى توقيعها في ريف حمص والغوطة الشرقية وجنوب دمشق ودرعا ومناطق أخرى، اختلفت في ما بينها بتفاصيل بسيطة، ولكن تشابهت في الشكل العام والبنود الأساسية: تهجير مَن يرفض الخضوع لسلطة النظام، تسليم السلاح الثقيل، وضمانات لحماية مَن قرروا البقاء.
هذه الاتفاقيات وقعتها لجان مثّلت سكان المناطق المحاصَرة، وبعد تنفيذها، نزح بعض أعضائها مع أولى دفعات المهجّرين نحو الشمال السوري، فيما بقي آخرون في مناطقهم، ليواجهوا نفس مصير السكان الذين فاوضوا نيابةً عنهم.
تعرّض بعض الباقين لنقمة المحيط وجرى استهدافهم أحياناً ورشقهم بتهمة "الخيانة"، ولكن المستجد حالياً هو أن كثيرين منهم يتعرّضون لاعتقالات من قبل دوائر النظام، في ممارسات ارتفعت وتيرتها في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ، خاصة في درعا.
ظهور لجان التفاوض ودورها السابق
سيناريوهات متشابهة مرّت بها مناطق المعارضة التي جرى توقيع اتفاقيات تسوية بشأنها. بدأت الأمور بفتح خطوط اتصال مع النظام، ولاحقاً جرى تشكيل لجنة تفاوض وبدأت الاجتماعات مع ممثلي النظام، وصولاً إلى عرض مسودّات الاتفاقيات على الأطراف المدنية والعسكرية في المنطقة، ثم التوقيع فالتطبيق. يروي الدكتور عبد الله الحريري، أحد أعضاء لجنة اتفاقية جنوب دمشق، والذي كان ممثلاً عن الجيش الحر فيها أنه "لم تكن اللجان وخاصة بممثليها الأوائل تضم أهم الشخصات الدينية أو العلمية أو حتى قادة الرأي في المنطقة التي يتم التفاوض بشأنها، بل كانت تضمّ مَن لديه قدرة على الوصول إلى شخصيات نافذة في إحدى دوائر النظام، ومَن لديه معارف في الطرف الآخر ويستطيع التواصل معهم للحصول على الغذاء في المرحلة الأولى". ويضيف أن تلك اللجان صارت منظمة بشكل أكبر في مرحلة لاحقة، "وتحوّلت العمليات إلى جلسات تفاوض، أو لنقل محاولة التسليم بأقل الخسائر الممكنة". ويشير إلى أنه "في بداية طرح فكرة التفاوض في جنوب دمشق جرى اغتيال صاحب الفكرة حينها، الشيخ أبو عمر خليفة، وبعد اشتداد الحصار صارت كل فئة تبحث عمَّن يفاوض عنها، ليبرز المفاوضون في ما بعد كصلة وصل مع النظام، ما مكّنهم من احتلال مكانة اجتماعية وسياسية في مناطقهم كونهم المسؤولين عن إدخال صناديق المساعدات للمدنيين والعسكريين... هكذا أصبح محاورو النظام في مرحلة من المراحل قادةً في مناطقهم". في درعا كان الأمر مختلفاً كون التفاوض كان سريعاً من جهة، وكونه لم يأتِ بعد حصار طويل، كما حدث في جنوب دمشق والغوطة الشرقية. يروي عمار الخطيب، وهو صحافي ترك درعا مهجّراً إلى الشمال السوري بعد توقيع الاتفاقية الخاصة بمنطقته، أن اللجان في درعا تشكلت بدايةً ممَّن سُمّوا "رجال المصالحات"، وهم رجال حاوروا النظام بعد الحملة العسكرية الأخيرة، وبعضهم "كان متعاوناً أصلاً مع النظام وقد كُشف ذلك في ما بعد، وكان له دور كبير في تجييش السكان على الفصائل، وبث الشائعات أحياناً". ويضيف أنه عند دخول الطرف الروسي في العملية وطلبه من فصائل المعارضة تشكيل وفد للتفاوض، بدأ الانقسام بين الرافضين والمؤيدين، "فيما كان الضغط الشعبي يتجه نحو التفاوض لمنع استمرار القصف ودمار المناطق، لتبدأ الجلسات في ما بعد ويتم التوصل إلى الاتفاقية". وفي ريف حمص الشمالي، تشابه الحال مع ما شهدته درعا إذ كان ضمن اللجان ممثلون عن الفصائل العسكرية والمدنية، "بعضهم كان على علاقة وثيقة بالنظام، بل وبعضهم كان يسرّب كل ما يتم تداوله في الاجتماعات الخاصة لتلك اللجان قبل الجلوس على طاولات التفاوض..."، يقول محمود الذي يرفض التصريح باسمه الكامل وهو أحد أعضاء اللجان التي فاوضت عن مناطق ريف حمص الشمالي. ويتابع: "كانت أغلبها لجاناً مخترقة، تحاور كل منها النظام بشكل فردي لمحاولة تحصيل الشروط الأفضل لمناطقها، فيما كان النظام يحاور بحرفية وبجسد واحد، ويعرف كيف يفرض ما يشاء، وكيف يخترق هذه اللجنة أو تلك".الفصل الجديد... نقض الاتفاقيات
مؤخراً، بدأ النظام السوري يطبّق مرحلة جديدة من اتفاقيات التسوية لا تنص بنودها عليها بالطبع، وهي مرحلة نقض الاتفاق. عدا تهجير الرافضين للخضوع لسلطة النظام إلى الشمال السوري، وتسليم سلاح المعارضة الثقيل، تضمّنت اتفاقيات التسوية منح "بطاقات تسوية" لمَن يسلمون أنفسهم من العسكريين، وضمان عدم سوقهم إلى جبهات خارج مناطقهم، بل جعلهم قوى عسكرية تضبط الأمن في مناطقهم، وعدم التعرض بالاعتقال للمدنيين، وعدم سوق المطلوبين للخدمة العسكرية إلى الجبهات قبل مدة محددة، تتيح لبعضهم الحصول على أوراق التأجيل أو اتخاذ قرار السفر. ولكن هذه النقاط التي وردت كضمانات في نصوص الاتفاقات التي لعبت روسيا دور الضامن فيها راحت تتساقط بنداً تلو الآخر في كل المناطق بعد دخول النظام إليها."في آخر جلسة لنا مع الضباط الروس، قالوا لنا: النظام السوري سيفرض شروطه، ولن يقبل إلا بما يريد، ولن يلتزم بعهوده. كانوا يدعوننا بشكل غير مباشر إلى ألا يبقى أي أحد منا في المنطقة بعد توقيع اتفاق التسوية"
"هو يعرف تماماً مَن نحن، يعرف أننا أعداءه الذين أُجبرنا على توقيع المصالحات معه، يعرف أننا نكره الحوار معه تماماً، لكننا كنا نفاوض لتأمين سلامة الناس"... النظام السوري يعتقل مَن وقّعوا معه اتفاقيات تسويةقبل نحو شهرين، اعتُقلت مجموعة من النساء من قبل دوائر أمنية تابعة للنظام السوري، كان من بينهن زوجة أحد أعضاء وفد التفاوض مع النظام عن مدينة درعا. ووثّق ناشطون وإعلاميون عشرات حالات الاعتقال التي لم تستهدف ناشطين سابقين فحسب، بل استهدفت عشرات من أعضاء لجان التفاوض الذين جلسوا مع النظام على طاولات توقيع اتفاقيات تسليم مناطقهم، إضافة إلى أولئك الذين صالحهم النظام وأعطاهم "بطاقات التسوية"، التي تحوّلت خلال أيام قليلة إلى بطاقات إدانة، تتيح اعتقال حاملها، كونها تشهد على أنه كان مقاتلاً في فصيل معارض. قام المراسل الصحافي المقيم في درعا عماد الأحمد بتوثيق اعتقال العشرات من أعضاء لجان التفاوض، وحملة بطاقات التسوية. يؤكد أن "عدد المعتقلين حالياً من أعضاء لجان التفاوض يفوق العشرين، فيما يفوق عدد المعتقلين من حَمَلة بطاقات التسوية في درعا المئات، إذ يقوم النظام يومياً باعتقال مَن منحهم سابقاً بطاقات تسوية، بتهم كثيرة، كما اعتقل متخلفين عن أداء الخدمة قبل انقضاء المدة التي كان قد منحهم إياها بموجب اتفاق التسوية وهي ستة أشهر". يُساق أعضاء لجان تفاوض سابقين إلى المعتقلات بتهم مختلفة: سرقة تهريب آثار، العمل في مكاتب تحويل غير مرخصة، حيازة أسلحة غير مرخصة، مخالفات في البناء، وغيرها من التهم... يخرج بعضهم بعد أيام بانتظار اعتقاله مرة أخرى، وهو ما تكرر كثيراً بحسب المصادر، وبقي بعضهم في المعتقل حتى اليوم. هي أحداث تشهد على أن بنود اتفاقيات التسوية، يمكن وبسهولة التلاعب بها، وهو أصلاً ما كان يدركه حتى الضامن الروسي نفسه. يقول عبد الله الحريري: "في آخر جلسة لنا مع الضباط الروس، قالوا لنا: النظام سيفرض شروطه، ولن يقبل إلا بما يريد، ولن يلتزم بعهوده. كانوا يدعوننا بشكل غير مباشر إلى ألا يبقى أي أحد منا في المنطقة بعد توقيع الاتفاق. لقد عرضوا علينا كلجنة مفاوضة السفر إلى موسكو لإكمال حياتنا هناك، وهو ما رفضناه. وقّعنا وخرجنا إلى إدلب مدركين ما سيفعله النظام، ومتمنّين لمَن بقي أن يصبر على الظلم القادم كما صبر على الجوع والحرمان والقصف سابقاً". هذا التقييم وُلد لدى الحريري من متابعته لمسار المفاوضات التي يقول عنها إنه "من المضحك أن نسميها مفاوضات"، مضيفاً: "كنا فقط نحاول ضمان خروجنا فقط، وتخفيف مستوى السوء الذي سيعيشه مَن سيقرر البقاء لا أكثر". ويروي تفاصيل إحدى وقائع المفاضات ويقول: "أذكر أننا وضعنا في جنوب دمشق ورقة طالبنا فيها بعدم دخول النظام إلى مناطقنا، وبأن يعطونا أحقية حكم المناطق، وعادت تلك الورقة ممزقة إلينا عبر الروس"، ويستخلص من ذلك أن "الهدف كان واضحاً وهو إجلاء مَن لا يريد البقاء، وحكم الباقين بالحديد والنار". وعن مصير المفاوضين بعد تطبق الاتفاقيات، يشير إلى أن "أغلب أعضاء المفاوضات في جنوب دمشق تركوا المنطقة، لأنهم يعرفون أن النظام لن يتهاون مع أحد. هو يعرف تماماً مَن نحن، يعرف أننا أعداءه الذين أُجبرنا على توقيع المصالحات معه، يعرف أننا نكره الحوار معه تماماً، لكننا كنا نفاوض لتأمين سلامة الناس، بالتأكيد لن يتهاون مع أحد وخاصة أعضاء اللجان نفسها، وبالتأكيد سيعتقلهم، وهو ما ظهر مؤخراً في ريف حمص وفي درعا وغيرها". ترك الحريري جنوب دمشق بعد توقيع اتفاق التسوية ونزح إلى الشمال السوري ثم إلى تركيا، وذلك بعد تجربة ثماني سنوات قضاها كطبيب ميداني وناشط سياسي في منطقة شهدت أقسى أنواع الحصار في سوريا. ولكن بعض أعضاء لجان التفاوض لم يغادروا منطقتهم بعد دخول النظام إليها، ولم يتحولوا إلى عملاء، و"بالتأكيد سيكون مصيرهم التصفية أو الاعتقال"، بحسب الحريري الذي يشير إلى أن "النظام دخل إلى تلك المناطق ليطبّق قانونه، وسيجد ألف مبرر لاعتقال مَن شاء ممّن جلسوا سابقاً معه ووقعوا اتفاقية تسوية، أو ممن حصلوا على بطاقات تسوية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين