لطالما مثّلت المناسبات الاحتفالية المختلفة أعباءً مادية كبيرة على جميع الأسر التي تهدف لتنظيم استقبال يليق بتلك المواسم بأي شكل من الأشكال، وإن كانت الأسرة تعيش تحت خط الفقر، فذلك لا يعني أن أحلام ترتيب استقبال المناسبات الاحتفالية المتنوعة قد ذهبت أدراج الرياح. وقد يقول أحدهم إن بعض المناسبات تأتي نجدةً لتلك الأسر من حيث توزيع الأموال عليهم والأضحيات، خاصة الدينية منها، مثل اللحم الذي تستقبله الأسر البسيطة في الأعياد، لكنها لا تغنيهم عن باقي متطلبات واحتياجات المنزل في تلك المناسبات، مثل "لبس العيد" "وخروجة العيد" وباقي أطباق غذاء العيد، وبذلك فإن "تلك النجدة" لا تتعدى كونها خبرًا سارًا يتلقاه الأب والأم وسط انشغالهما بالإعداد لباقي الأمور المصيرية من وجهة نظر أطفالهما وجيرانهما.
على العكس تمامًا، يمكن لعيد الحب (الفالنتاين)، الذي يوافق الرابع عشر من شباط/فبراير لكل عام، أن يُصبح الاحتفال الأكثر بساطة وسلاسة بعيدًا عن تعقيدات المسؤوليات الاجتماعية التي تتضمنها باقي المناسبات، فلا أنت مُطالب بتوفير وجبة معينة من اللحوم مثلما يحدث في عشية أعياد الميلاد أو شهر رمضان وعيد الأضحى، ولا تهتم بمتابعة أسعار الكحك والبسكويت والعجين بأنواعه كما تتابعها بقلق في عيد الفطر، وحتى أعباء المناسبات غير الدينية مثل "تحويش" ثمن وجبات الأسماك النيئة المخزنة "الفسيخ" في عيد شم النسيم لن تُلقي بظلالها على عيد الحب، فقط المطلوب بعض الحب، أن تتذكر، أن تُخبر أحدًا ما بأنك تحبه بلا أُضحيات ولا عجين.
هذا لا يعني أنه لا توجد محاولات لقلب الأمور رأسًا على عقب من الناحية المادية، بجعل عيد الحب مناسبة تجارية بحتة أسوة بباقي الأعياد والمناسبات، فالدبدوب الأحمر وأقرانه من الهدايا التي تليق بحبيبتك أصبحت لدى شريحة كبيرة طقسًا أساسيًا، كلّف مصر هذا العام ما يقرب من 5 ملايين دولار، إلا أن هذا الرقم الهزيل دليل كافٍ على صمود المجتمع ضد تحويل عيد الحب إلى مناسبة مادية إذا قارنا تلك الـ 5 ملايين برقم الـ 55 مليون دولار الخاصة باحتفالات رأس السنة و50 مليار جنيه فاتورة استقبال المصريين لشهر رمضان. ولعلّ ذلك هو ما دفع المصريين إلى تحديد يوم آخر هو 4 تشرين الثاني/ نوفمبر للاحتفال مجددًا بعيد الحب بجانب 14 شباط/ فبراير العالمي.
بدون ابتسامات مُزيفة، يُمكنك ملاحظة انفراجة خفيفة على ملامح الجميع إذا ما ذُكرت أمامهم سيرة عيد الحب حتى ولو حاولوا أن يسخروا منها. فسواء كان المرء لا يهتم بالاحتفال أو حتى إذا كان أعزب، فأجواء احتفالات عيد الحب لا تستدعي القلق ولا تُجبر الأهل على استعدادات استثنائية أيضًا، أي لن يقول لك أحدهم "كل عام وأنت بخير" ومن ثم يبدأ الخوض في حسابات الأرقام ليتأكد أنه يستطيع عبور تلك المناسبة بخير فعلًا أم لا، ففي معظم الأوقات التذكر ووردة وكلمة طيبة كافية لإسعاد أطراف الاحتفال الآخرين أحبابًا أو أهلًا.
إذا فسوف يكون من المُنصف القول إن عيد الحب قد نجح في الوصول بأمان إلى الطبقات الفقيرة، في الوقت الذي فشلت باقي الاحتفالات الدينية مثل الكريسماس والأضحى والفطر والتاريخية المُقدسة مثل شم النسيم، والمفترض أن تكون هي الأولى بتلك المهمة من الأساس، ربما تلك هي إحدى مميزات رفع القدسية عن بعض الأشياء.
من المُنصف القول إن عيد الحب قد نجح في الوصول بأمان إلى الطبقات الفقيرة، في الوقت الذي فشلت باقي الاحتفالات الدينية مثل الكريسماس والأضحى والفطر والتاريخية المُقدسة مثل شم النسيم، والمفترض أن تكون هي الأولى بتلك المهمة من الأساس.
أن تكون أحد الفقراء في مصر لا يتعارض مطلقًا مع تخطيطك لليلة هانئة في عيد الحب، فالأمر لن يُكلفك أكثر من 40 جنيهًا، أي ما يعادل دولارين لصناعة جو رومانسي مثالي لتلك الأمسية، إذ تتمشى برفقة حبيبتك على كورنيش النيل وتتناولان مشروبًا ساخنًا أمام نهر النيل.
في النهاية، أتمنى أن يظل عيد الحب مناسبة خفيفة تمر كل عام على سماء الفقراء وتلقي لهم ببعض الذكريات اللطيفة مرة واحدة دون أن يتكبدوا عناء تفقد حافظة نقودهم، وألا تحمل رياح الطبقات الأكثر ثراءًا عواصف الغلاء المُحملة بالهدايا.
يوميات فقير في الفالنتاين
أن تكون أحد الفقراء في مصر لا يتعارض مطلقًا مع تخطيطك لليلة هانئة في عيد الحب، فالأمر لن يُكلفك أكثر من 40 جنيهًا، أي ما يعادل دولارين لصناعة جو رومانسي مثالي لتلك الأمسية، إذ تتمشى برفقة حبيبتك على كورنيش النيل وتتناولان مشروبًا ساخنًا أمام مشهد نهر النيل العظيم في رعاية 4 أسود لقصر النيل وخلفك ترتفع البلالين والألوان الحمراء من أزياء المارة وإكسسوارات أصحاب المشروعات التجارية الصغيرة على الكوبري، إلا يبدو ذلك مثاليًا للغاية، وبالطبع يُمكنك التضحية بأقل من 3 جنيهات بعد نهاية اليوم لتنعم بمكالمة هاتفية دافئة تستعيد بها بعض تفاصيل النزهة وألوان النيل، مع قضاء نهاية اليوم في مشاهدة أحد الأفلام المعروضة تليفزيونيًا بالمشاركة عن بُعد كبديل لدخول السينما المُكلف.. وكل الحب.
في عيد الحب حتى مفهوم العيدية يسقط بلا رجعة، فعلى عكس المعتاد والمعروف عن المناسبات الاحتفالية من أعباء دفع بعض الأموال للشبان الأصغر سنًا كعيدية، فلم تنجح تلك العادة في التلصص على عيد الحب إطلاقًا، خاصة أنك سوف تواجه بسيل من السخرية إذا ما طالبت بذلك، فكيف لأحدهم أن يطلب من أهله أموالاً ليعيش بها قصة حب ليوم واحد دون اضطراره للخوض في حديث أن الحب للكبار وأن عليه أن يصب تركيزه على مرحلته العمرية الحالية بالدراسة مثلًا، لذا فسوف يؤثر الجميع الصمت والاستمرار في تنظيم ذلك اليوم دون تداخل مادي مطلقًا.
في النهاية، أتمنى أن يظل عيد الحب مناسبة خفيفة تمر كل عام على سماء الفقراء وتلقي لهم ببعض الذكريات اللطيفة مرة واحدة دون أن يتكبدوا عناء تفقد حافظة نقودهم، وألا تحمل رياح الطبقات الأكثر ثراءًا عواصف الغلاء المُحملة بهدايا السيارات والذهب والهواتف المحمولة المرتفعة السعر والخروج إلى أماكن تستدعي دفع الكثير من الأموال لدخولها فقط قبل الحديث عما سوف تتحمله من أعباء مادية أخرى داخلها. بعبارة أخرى أتمنى ألا يُصبح عيد الحب مُقدسًا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...