شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
الحنين إلى

الحنين إلى "اكتبلي جواب وطمنّي" ولكل ما يفتقده الإيميل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 7 فبراير 201902:25 م

كانت جدتي كل شهر تقريبًا تدعو أمي وجميع خالاتي وأولادهن للجلوس في صالة منزلها الفسيحة. ونروح كلنا ننظر لذلك "المُسجل" العملاق بالنسبة لنا، نحن الصغار، وقد وضعته على كُرسي من الخشب الخيزران، لنسجل على "شريط" الكاسيت لخالي المسافر إلى إحدى الدول العربية، نصطف جالسين واحداً تلو الآخر، لنتحدث في ذلك الجهاز الذي أثار انبهارنا، إلا أنه في الواقع كان ممنوعاً الاقتراب منه أو لمسّه.

"إزيك يا خال وإزي صحتك وإزي أحوالك؟"، كلمات كنا نحفظها جميعًا، ونكررها، بلا  ضحك أو هزار كي لا تنفذ "سعة الشريط"، فالوجه الأول منه لنا نحن، الأطفال، أم الوجه الثاني فهو للكبار، وكُل منا يجب أن يستثمر مساحته، كأطفال لم يكن يُسمح لنا بالتحدث زيادة عمّا قيل لنا. كانت تجربة غريبة، لا أعرف مفادها. طالما كنا نقول فقط ما يملونه علينا من العبارات والتحيات، لكن جدتي كانت دائمًا تقول: "هو في غربة، عشان يسمع صوتنا ويطمن علينا، واحد واحد".

كان الشريط يقبع في دولاب جدتي في انتظار "تاجر الشنطة"، وهو شخص كانت وظيفته السفر من دولة إلى أخرى، فهو معروف بالاسم في محافظته، يسافر بين لبنان ومصر مثلًا، يجمع شرائط التسجيل، والهدايا من المسافرين، ليُصلها إلى ذويهم في مصر، ويعود بتسجيلات الأهل ليُعطيها لأبنائهم المُسافرين الذين بدورهم يطمئنونهم على وصول "الهدايا".

كان "تاجر الشنطة" بالنسبة لنا "جامع الأحلام"، فكانت سيارته عندما تدخل أحد الشوارع مُحملة "بشنط" كبيرة الحجم، فهذا معناه أنها تحوي على الكثير من الهدايا واللعب التي ننتظرها، كلما سمحت ظروف خالي بذلك.

ما زلنا أنا وأخي حتى الآن نضحك على تلك الكلمات التي كُنا نقولها، في التسجيل، رغم أننا نضحك، هناك شيء من الشجن، داخل كل منا، للعودة لتلك الأشياء التي كنا نفعلها ببساطة، لكنها ما زالت محفورة في لمعة أعيننا ودقات قلوبنا.

لكن ماذا حدث؟

تطوّرت المسألة بعد ذلك، إلى أن بدأ البعض يكتبون "الجوابات" (الرسائل) للتواصل بينهم وبين ذويهم، خاصة إذا كان الأمر "مستعجلًا" ولا يتحمل انتظار "تاجر الشنطة"،كانت "الجوابات" وسيلة التواصل، حتى أن الإذاعة المصرية كانت تبث برامج "لهواة المراسلة" وكان لها جمهور عريض آنذاك.

تحكي صديقتي دعاء عن مدى تأثرها وحزنها الشديد، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003، عندما انقطعت أخبار صديقها إبراهيم الذي كان يُراسلها عبر برنامج لهواة المراسلة كان يُبث عبر إذاعة الشرق الأوسط. تقول: "انقطعت الأخبار تمامًا ولم يعد يُراسلني حتى بعد أن أرسلت له "جوابًا" لأطمئن عليه"، لكن كانت "جوابات المُراسلة" وسيلتها لتذكره.

مرّت السنوات إلى أن وجدت دعاء صديقها عبر صفحات "السوشيال ميديا"، حيث أن العالم الافتراضي نحّى كل ذلك جانبًا، لتختفي الوسائط الأخرى، ويُصبح هو فقط سيد الموقف. اختلف مفهوم الذكريات الملموسة التي تتنفس رائحتها بين يديك، لتصبح هناك على صفحات السوشيال ميديا، كل يوم تقريبًا يُعد "فيسبوك" قائمة بما كتبناه أو شاركناه في اليوم نفسه على مدار السنوات التي استخدمنا فيها الموقع، ربما نفاجأ بذكريات شاركناه مع صديق كنا قطعنا علاقتنا به، وربما نستمر في محو الذكريات السيئة التي تؤذينا.

لكن رغم ذلك تظل الذكرى الملموسة بين طيات ورقيات متناثرة، أو رائحة حبر على جواب كتبناه قبل سنوات، مركبًا للذكريات يأخذنا عبر السنوات، لنبحر في ماضينا، الذي بالتأكيد نحنّ  إليه بين فينة وأخرى. رائحة الخريف، رائحة بيوتنا، رائحة تغيير الفصول، والشتاء، كلها أمور تستدعيها الذاكرة بكثافة لدى النظر إلى رسالة ملموسة بين أيدينا.

وما زالوا يكتبون رسائلهم الخاصة...

رغم وجود السوشيال ميديا، فإن البعض ما زال يعي أهمية الجوابات (الرسائل)، الأمر لم يقتصّر فقط على الأغاني التي تمجد إرسال الجوابات. فنستولوجيا الروائح تعيد إلى ذاكرتنا موجة من الذكريات العاطفية، وخاصة تلك المرتبطة "بالورق"، شغف الورق يُعيد إلى أذهاننا روائح الماضي أيضًا؛ رائحة المذاكرة، رائحة أمهاتنا، الفصل الدراسي، أحلام حققناه وأخرى فشلنا بها، قصة أوّل حب، رائحة الطمي، الزرع المختلط بحبات الندى أثناء ذهابنا صباحًا إلى مدارسنا، وغيرها.

ربما هذا الشغف المرتبط بالورق هو الذي دعا عددًا من صانعي العطور، لابتكار رائحة كالورق تباع الزجاجة الواحدة منها بنحو 200 دولار، ربما لو اشتريت الكتاب ذاته سيكون أرخص بكثير. تلك الفكرة ليست ببعيدة عن مجموعة من الشباب المصريين الذين فطنوا إلى ربط الورق بالذكريات، فأسسوا أول شركة من نوعها لكتابة الجوابات في مصر، إذ ما عليك سوى إخبارهم بما تريد كتابته وسط سرية تامة، يضعون عطرًا مُناسبًا، أو وردة، وتقوم أنت فقط باختيار الرائحة التي تُريد إيصالها إلى شريكك.

جوابات الحبّ وسيلة لزرع الذكريات

تأخذنا الروائح في العادة  إلى المناطق المرتبطة بالمشاعر والذكريات في الدماغ وهو ما يُفسّر شعورنا بالحنين عند شم رائحة ما. ليال ياسر، إحدى المتعاملات مع شركة "الجوابات"، لكنها تفضل اختيار عطرها على الجواب المُرسل بنفسها، تقول لرصيف22: "كل مرة أختار العطر المناسب لكل رسالة أريد إيصالها، لكل رائحة ذكرى خاصة، تدغدع مشاعرنا". الجوابات وكتابتها وكل شيء متعلق بالماضي، "يسحب" جزءاً كبيراً من روحنا، حتى أن أي قصة حب على الشاشة كانت مُرتبطة "بجواب" بين الحبيبين، بعد الفراق، أو لمدّ جسر اللقاء.

سما مدحت، وهي رسامة مصرية، ترى أن الجوابات وسيلتها لزرع الذكريات في من تقابلهم حتى ولو لمرة وحيدة، لذلك  تداوم على كتابة جواب، وإن كان مكوّنًا من سطرين فقط، تقوم خلاله، بسرد تفاصيل لقائها بالأشخاص، وتعبر عن مشاعرها بعد لقائهم.  وتتابع: "حتى لو كانت الهدية دي عبارة عن كلام فوق الورق، فأنا بحب أسيب ريحتي في أي مكان بكون موجودة فيه، في ناس متعرفنيش بيطلبوا أني أكتب لهم جوابات، لما بيعرفوا من أصحابهم أني كتبتلهم". سما تعكف حاليًا على كتابة جوابات لأشخاص لا تعرفهم، تُرسل إليهم فقط من باب المُساندة والدعم، رسائل ربما تُغيّر حياتهم.

من الذكريات أيضًا، أنه في آخر يوم امتحانات مدرسية، كنا  نكتب لأصدقائنا وزملائنا، في "نوت" خاصة، هذا الكلام ما زال يذكرنا بأصدقاء فرقّت بيننا ظروف التعليم، أو الانتقال من مكان لآخر، أو حتى الموت. عصمت مجدي تتذكر حتى يومنا هذا صديقتها التي خطفها الموت صغيرة، وكلما قرأت كلماتها لها في آخر يوم امتحانات: "افتكريني وادعيلي"، وهي بالفعل تواظب على ذلك.

هنالك أيضًا رسائل من نوع خاص تكتبها منة محمود يوميًا لابنها آدم، على أمل أن يقرأها عندما يكبر، حسب تعبيرها. وتضيف في حديث لرصيف22: "باكتب يومياتي معاه من وقت الحمل، كل حاجة حصلت بينا، أكلات أكلناها مع بعض، وخروجات خرجناها، أتمنى يقرأ التفاصيل دي".

"تاجر الشنطة“ هو شخص كانت وظيفته السفر من دولة إلى أخرى، ما بين لبنان ومصر مثلًا، يجمع شرائط التسجيل، والهدايا من المسافرين، ليُصلها إلى ذويهم في مصر، ويعود بتسجيلات الأهل ليُعطيها لأبنائهم المُسافرين.
تطوّرت المسألة بعد ذلك، إلى أن بدأ البعض يكتبون "الجوابات" (الرسائل) للتواصل بينهم وبين ذويهم، خاصة إذا كان الأمر "مستعجلًا" ولا يتحمل انتظار "تاجر الشنطة"، كانت "الجوابات" وسيلة التواصل، حتى أن الإذاعة المصرية كانت تبث برامج "لهواة المراسلة".
رغم وجود السوشيال ميديا، فإن البعض ما زال يعي أهمية الجوابات (الرسائل)، الأمر لم يقتصّر فقط على الأغاني التي تمجد إرسال الجوابات. فنستولوجيا الروائح تعيد إلى ذاكرتنا موجة من الذكريات العاطفية، وخاصة تلك المرتبطة "بالورق".
انتماءً للروائح والذكريات، أسست مجموعة من المصريّين شركة لكتابة الجوابات. إذ ما عليك سوى إخبارهم بما تريد كتابته وسط سرية تامة، يضعون عطرًا مُناسبًا، أو وردة، وتقوم أنت فقط باختيار الرائحة التي تُريد إيصالها إلى شريكك.

رسائل إلى اللاجئين

بوجا براديب، وهي مهندسة هندية تبلغ من العمر 25 عامًا، وجدت أن العالم أصبح أكثر دموية، وأن السوشيال ميديا تُبعدنا عن الأحداث المأسوية التي يمرّ بها الأطفال، خاصة في سوريا والعراق، فوجدت طريقة بسيطة لمساعدة هؤلاء الأطفال عبر إرسال "جوابات الحب"، كان ذلك داعمًا. بدأ مشروع "رسائل الحب" كصفحة فيسبوك أطلقتها براديب، تطالب من خلالها المهتمين/ات بالصفحة بإرسال بطاقات التهنئة بالعام الجديد في 2015 إلى الأطفال اللاجئين. وكانت قد أًرسلت 1300 رسالة من جميع أنحاء العالم كُتبت بخط اليد، وزُينت وتُرجمت إلى العربية إلى مركز للأطفال اللاجئين السوريين في تركيا. كان التفاعل مفاجئًا لكل من براديب ووكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) اللتين ساعدتا في إيصال الرسائل، التي أحدثت فرقًا كبيرًا للأطفال، واعتزوا بالحروف المُرسلة لهم، ومنذ ذلك الحين وهي تعمل مع فريق من الشباب لإيصال ما يقرب من 3000 رسالة سنويًا للأطفال اللاجئين من سوريا والعراق وفلسطين والروهينجا، حتى تساهم في شفاء روحهم، خاصة أنها تُقدم لهم مع حاجات يتمنونها، كملابس الشتاء مثلًا.

أمنية غير إلكترونية

ختامًا، سيظل "جواب واحد" الأكثر رومانسية، والأكثر حميمية، بالنسبة لي، من ألف "خطاب إلكتروني"، يتجسّد بأمنيتي أن يأتي اليوم الذي نستطيع فيه التخلي عن أجهزتنا النقالة، لبعض الوقت، لنمسك ورقة وقلم، ونكتب "جواباتنا" الخاصة، نلتصق أكثر بالمشاعر التي فقدناها، ونُصغي لأنين الذكريات العاصفة، ونبعد عن تلك المشاعر الجافة التي تشدنا إليها السوشيال ميديا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image