ماذا يعني أن تتصفح حسابك على فيسبوك فتجد اسم أعز أصدقائك مصحوبًا بجملة "في ذمة الله"؟ ستمرّ عيناك أولًا على الجملة ولا تفهمها. ستعرف أن القلب حينما يريد ألا يصدق شيئًا يبطل الاتصال بالعقل ليعرقله قليلًا. يشوّش الإشارات التي تسري في الجسد، فتنتفض بقية الأعضاء. أعتدل في جلستي.. ربما الاستلقاء على الأريكة يعوق الفهم أيضًا.. أفتح عينيٰ جيدًا، أخلع النظارة.. كل ما أفعله لا يغيّر الجملة المكتوبة أمامي، الجملة التي تنهي حياة أعز الأصدقاء. جملة واحدة فقط تغيّر مسار الأيام، تملؤها بالبكاء على أحلام كثيرة لم تتحقق.
نعم كان محمد أبو السعود ماكينة أحلام. كلما نسج حلمًا نجده يفكر في آخر.. قبل أن ينتهي من بروفات المسرحية يكون قد استغرق في عمله المقبل. لم يفهم أيٰ منا الآلية التي يعمل بها عقل أبو السعود. لكننا نصدقه. كل ما في الأمر أنه كان متعجلًا. سيرحل باكرًا يعلم ذلك.. حينما كنت أمارس دور الأم مع أصدقائي، أخبره بأن يهتم بصحته قليلًا حتى يبلغ الثمانين كمدرّس الفلسفة التي يحبّها. يضحك ساخرًا من فكرة امتداد العمر التي أطرحها بسذاجة. قال بثقة، وهو ينفث دخانه بعيدًا: "أنا لن أكمل الخمسين.". فعلها أبو السعود وذهب في أربعينه كما تنبأ.. لكن الوجه والقلب كما رأيتهما أول مرة وهو في الثامنة عشرة من عمره: طفل طويل ونحيف، بالغ الرقة والهشاشة، لا تسمع وقع خطواته على سلالم مبنى الفلسفة في كلية الآداب. فقط تراه أمامك مبتسمًا حاملًا كتبًا كثيرة من المفترض أن ينهيها بسرعة قبل أن يستعير غيرها.
في أحد تلك الأيام، بعد تعارفنا، جاء محمد أبو السعود ليعطيني ملفًا كبيرًا مكتوبًا بخط اليد لمسرحية اسمها "حاجة ساقعة". أخذتها دون حماسة لأنني لم أرحب بالاسم في البداية قبل أن ألتهمها بسرعة من سلاسة النص المكتوب، وأنا لا أتوقف عن الضحك على سلالم المدرج المخصص لطلاب السنة الأولى بقسم الفلسفة. النص كان أجمل من أن يكون لكاتب لم يكمل الثامنة عشرة من عمره، وبالفعل حاز النص الجائزة الأولى على مستوى الجامعات.
كان أبو السعود شغوفًا بالمسرح وكأنه خُلق من أجله. خلال الأربع سنوات في الجامعة كان كل شيء يدور في قسمنا بين الفلسفة والمسرح. كانت عروض أبو السعود تخفف علينا جفاف الفلسفة وتحولها إلى متعة مرئية. كنا نذهب وراءه لعروض في أماكن بعيدة، فقط لأنه فنان القسم العظيم. أبو السعود الذي لم ألمحه يأكل يومًا، فقط يحمل السجائر والقهوة التي لا تنضب وكتبًا كثيرة مترجمة نستطيع الاستيلاء عليها عندما ينتهي منها. سيهبك الكتب وهو يودعك بكلمات سريعة لأن عقله يغلي بأفكار العرض الجديد. في أوقات كثيرة، كنت أتسلل إلى الصف الخلفي في مسرح الهناجر بدار الأوبرا، وأجلس لأتابع بروفات مسرحية جديدة لأشحن روحي من جديد. سحر يلف المكان وأنت تستمع لفنان يعشق المسرح لدرجة مخيفة. مهمته أن يخلق الممثل وكأنه يهبه من روحه ويصر على تنفيذ الحلم الذي يعبث برأسه حتى لو ضحى بكل ما يملك. سنوات طويلة وينجح الفنان رغم أنوفهم المزكومة. يحصد الجوائز أحيانًا ويخيب أمله في أوقات أخرى. سنوات ومحمد يصارع ظلمًا وراء ظلم مثل أية موهبة حقيقية تؤلم الفارغين. ولكنه لا يتوقف عن عشقه ولا يكفر.
كان أبو السعود شغوفًا بالمسرح وكأنه خُلق من أجله. خلال الأربع سنوات في الجامعة كان كل شيء يدور في قسمنا بين الفلسفة والمسرح. كانت عروض أبو السعود تخفف علينا جفاف الفلسفة وتحولها إلى متعة مرئية.
كان محمد أبو السعود ماكينة أحلام. كلما نسج حلمًا نجده يفكر في آخر.. قبل أن ينتهي من بروفات المسرحية يكون قد استغرق في عمله المقبل. لم يفهم أيٰ منا الآلية التي يعمل بها عقل أبو السعود. لكننا نصدقه. كل ما في الأمر أنه كان متعجلًا. سيرحل باكرًا يعلم ذلك.
سنوات طويلة وينجح الفنان رغم أنوفهم المزكومة. يحصد الجوائز أحيانًا ويخيب أمله في أوقات أخرى. سنوات ومحمد يصارع ظلمًا وراء ظلم مثل أية موهبة حقيقية تؤلم الفارغين. ولكنه لا يتوقف عن عشقه ولا يكفر.
بعد سنوات من التخرج، وحينما كان يقضي عامًا بالأكاديمية المصرية في روما. وجدت المذيع الشهير يصور من إيطاليا حلقة عن الفنانين المقيمين هناك وقتذاك. كنت أمرّ أمام التلفاز. تعجبت وأنا ألمح أبو السعود فتسمرت في مكاني. أعرف أنه لا يحب اللقاءات التلفزيونية ولا يستطيع أن يكمل حوارًا واحدًا مع شخص ثقيل الظل. سأله المذيع بجديته المعهودة: بعد اطلاعك على تجربة المسرح الإيطالي بكل زخمها، ماذا ستضيف أنت للمسرح في مصر بعد عودتك؟ فرد أبو السعود بتلقائيته القاتلة: "لا أنا مش هاشتغل مسرح لما أرجع.. هاعمل سينما!". انفجرت بالضحك، بينما تلعثم المذيع الذي لم يتعوّد أن يغير ضيفه قضبان الحديث التي يسير عليها مثل قاطرة صماء. سألته بعد عودته عن الحوار، فأجاب بأن مدير الأكاديمية استدعى كل الفنانين من أماكن مختلفة قائلًا إنه أمر طارئ وعاجل ليكتشفوا أنها مجرد حلقة تلفزيونية. هذه هي طريقة أبو السعود في الانتقام. لمن لا يفهم كيف يتعامل مع الفنان، فعليه أن يتحمل طريقة انتقامه. اليوم انتقم منا جميعا ورحل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع