شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
هاربات من السودان إلى مصر بحثاً عن الحرية، فهل وجدنها؟

هاربات من السودان إلى مصر بحثاً عن الحرية، فهل وجدنها؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 4 فبراير 201905:28 م

بعد محادثات طويلة اتفقنا على اللقاء في محطة "مترو السادات" حتى نذهب إلى المعادي لنشتري كل ما يلزمنا لعمل الراستا (جدائل الشعر الأفريقية). كانت الطرق مزدحمة، وصلت إلى محطة المترو على عجل، كنت قد أغلقت الهاتف معها للتوّ، قالت لي إنها تنتظرني على رصيف المحطة في اتجاه حلوان - موقف السيدات. لم أجدها وكأنها فص ملح وذاب. كنت أبحث عن "س"، فتاة سمراء، كل ما تحمله ذاكرتي البصرية عنها هي صورتها على فيسبوك.

بعد لحظات وجدت شاباً يتجه نحوي وقد اختفت ملامحه خلف قبعة وجاكبت واسع. فور اقترابه الشديد مني، رفع عينيه نحوي، فوجدتها هي وقد أخفت كل ملامح جسدها ووجها خلف تلك الملابس! من الصعب جداً تحديد هويتها أثناء الحركة في الشارع. حاولت إخفاء دهشتي عنها ثم أخذنا طريقنا إلى المعادي. أثناء وجودنا في المترو فاجأتني بسؤال عن التوتر الذي ظهر على ملامح وجهي بسبب مظهرها وتخفّيها بهذا الشكل. أحببت استرسالها في هذه اللحظة، كانت تتحدث بخفة شديدة بصوت خافت. ذكرت لي كيف أن هذا المظهر هو الزيّ الرسمي لتحركها في المواصلات! والسبب يرجع إلى ما تتعرض له من شتائم وانتهاكات وتحرّش دائم بسبب لون بشرتها الداكن ومظهر شعرها المجعد الأفرو الضخم. نظرة الرجال المنحطة لها كفتاة سمراء والعروض لممارسة الجنس مقابل المال بأشكال بذيئة كثيرة، هي أسباب جعلتها تختار التخفي كي تسير بحرية في شوارع القاهرة مرتديةً ما تحبّ.

كنت في حالة ذهول، لم أعرف أن الأمر وصل إلى هذا الحدّ في مصر! كفتاة مصرية تعرضت على مدار حياتي لما تتعرض له كل الفتيات في الشوارع من تحرّش جسدي أو انتهاكات وعروض لممارسة الجنس، ولكن لم يكن لدي معلومات كافية عمّا يتعرضن له الفتيات السودانيات من إهانة في مصر غير معلومات بسيطة.  "س" هي فتاة سودانية تعمل بمجال الموسيقى (دي جي)، تلعب الموسيقى الإثنية والهيب هوب، تتقن عمل الراستا (جدائل الشعر الأفريقية) وبعض الأعمال اليدوية الخاصة بالتراث السوداني، غادرت السودان هاربة إلى مصر من هول ما تعرضت له من اضطهاد في بلدها بسبب كونها أنثى مثلها مثل نسوة السودان كلهن. تم القبض عليها من قبل السلطات في السودان عام 2012 بسبب ارتدائها بنطالاً، تعرّضت للحبس والجلد ثم تم الإفراج عنها. هكذا روّت قصتها ببساطة وهي تضفر لي شعري، وبرغم قسوة القصة وعنف التفاصيل توقفتُ بالذات عند نبرتها غير المبالية الحزينة وهي تخبرني أن غالبية الفتيات السودانيات يتعرضن للجلد عند القبض عليهن، وأن هذا أمر معتاد.

رغم تطوّر الوضع خاصة منذ عام 2009 عندما تعرضت إحدى أهم الناشطات السودانيات وموظفة الأمم المتحدة، لبنى حسين، للمحاكمة ودفع غرامة بسبب ارتدائها بنطالاً، مما تسبب بانقلاب الرأي العام على مستوى العالم، برغم ذلك كله ما زال تطبيق مثل هذه المحاكمات الهزلية مستمراً، والتي لا تلتزم أي مسار للعدالة الحقيقية مستندة إلى قوانين النظام العام السوداني التي صدرت للمرة الأولى عند وصول الجبهة القومية الإسلامية إلى الحكم في انقلاب يونيو 1989، والتي تتضمن عدة مواد تتعلق بالزي العام والسلوك الشخصي والاجتماعي للمواطنين مما يجعل الدولة رقيباً على سلوكياتهن بشكل فيه تعمد لامتهان كرامتهن. هذا الوضع بالفعل يخالف مبادئ الحرية التي ينص عليها الدستور السوداني لعام 2005 وتعديلاته، والأهم هو الاضطهاد والتمييز السلبي المباشر ضد المرأة وضد الطبقات المستضعفة في المجتمع. فتطبيق هذه القوانين يقع على كاهل الطبقات المستضعفة والفقيرة، فبالطبع يتمتع فتيات الطبقات العليا وصاحبات النفوذ بامتيازات وحريات مختلفة عن باقي النسوة السودانيات.

هذا الهروب الذي قامت به الكثير من الفتيات السودانيات وذويهم إلى مصر بحثاً عن الحرية والكرامة الانسانية لم يلق عند شوارع مصر قبولاً وتفهماً، فما زالت نبرة العنصرية تجاه اللون والعرق عالية تتسبب بالعديد من الانتهاكات في حق الفتيات السودانيات. تقول "و" وهي فنانة تشكيلية مقيمة بالقاهرة إن المدينة المصرية لم تتقبلنا بسهولة، وهناك نظرة دونية متوارثة تجاه أصحاب البشرة الداكنة وكأن عليهن أن يدفعن ثمن تغذية دراما المجتمع بأفكار عنصرية حولهن، سواء كن يعاملن كخادمات أو بائعات للهوى في الأفلام مثلاً، وما يتداوله المجتمع عنهن من أفكار شائنة متوارثة ليس لها أي أساس من الصحة. فبينما حاولت الفتيات الهروب من السوط السوداني القامع، قابلن في مصر وحش العنصرية يعطل كل أحلامهن نحو حياة حرة ويوميات سعيدة، خاصة البسيطات اللواتي لا يتمتعن بامتيازات اجتماعية أو سياسية.
نظرة الرجال المنحطة لها كفتاة سمراء والعروض لممارسة الجنس مقابل المال بأشكال بذيئة كثيرة، هي أسباب جعلت "س" بأن تختار التخفي كي تسير بحرية في شوارع القاهرة مرتديةً ما تحبّ.
غادرت "س" السودان هاربة من هول ما تعرضت له من اضطهاد في بلدها. تم القبض عليها من قبل السلطات في السودان عام 2012 بسبب ارتدائها بنطالاً، تعرّضت للحبس والجلد ثم تم الإفراج عنها. وأخبرتني أن غالبية السودانيات يتعرضن للجلد عند القبض عليهن.
هذا الهروب الذي قامت به الكثير من الفتيات السودانيات وذويهم إلى مصر بحثاً عن الحرية والكرامة الانسانية لم يلق عند شوارع مصر قبولاً وتفهماً، فما زالت نبرة العنصرية تجاه اللون والعرق عالية تتسبب بالعديد من الانتهاكات في حق السودانيات.
كانت التجربة الواقعية لما روته "س" عن السير معها في شوارع القاهرة مؤسفة، حيث خلعت الكاب وسرنا معاً في أحد الشوارع الشعبية  لحي المعادي، حيث وقع علينا سيل من الانتهاكات اللفظية، ما بين البذاءة الجنسية والعنصرية اللفظية في وصفها وسبها ونعت مظهر شعرها ولون بشرتها حتى أني كنت على وشك أن أفقد أعصابي وأشتبك مع أحدهم، عندما تدخلت هي ورفضت تماماً الرد على أي شخص في الشارع تعدّى علينا، في حالة من الصمت، ثم عادت وأرتدت الكاب مرة أخرى معلقة: "لو أشتبكنا معاهم والموضوع وصل للأمن محدش هينصفني".

على مدار العشرة أعوام الماضية، أصبح غضب النساء السودانيات يتصدر المشهد السوداني خاصة بعد الأزمات الاقتصادية الأخيرة وزيادة حدة التوتر بين الدولة وبين مطالب المرأة السودانية على مستوى الحريات والتمكين السياسي، إذ تعرض الكثير من الناشطات السودانيات للاعتقال والعنف البدني والمضايقات الجنسية بجانب حملات التشهير، في ظل إنكار الحكومة السودانية أي انتهاكات تقوم بها في حق النساء السودانيات. وقد رصدت هيومن رايتس واتش مئات الانتهاكات في حق النساء، ولذلك لا عجب أن يتصدر مشهد الحراك والانتفاضة السودانية الآن النساء السودانيات في كل مكان وكل شارع وتعلو أصواتهن بالمطالبة برحيل عمر البشير عن الحكم وتحرير السودان من الرعب القاطن في شوارعها ليل نهار.

وإذا كانت تلك الموجة القوية الحالية تعلو نحو تحرير المرأة السودانية نفسها من القيود المفروضة عليها، ألم يحِن الوقت أن نواجه أنفسنا كمجتمع مصري لم يطهر نفسه من شبح العنصرية الذي يطارد الأقليات والفئات المستضعفة بسبب إرث من الجهل والأخطاء المستمرة في حق الغير؟ باعتبار مثل هذه الممارسات العنصرية ما هي إلا جريمة في حق الأقليات العرقية. وكما يقول كارل ماركس: "إن تقاليد كل الأجيال الميتة تجثم مثل الكابوس على دماغ الأحياء/ فأعتقد إنه علينا كأحياء مواجهة العنصرية الكامنة في ميراث زائف تجاه الآخرين".

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image