تحيا في دواخلنا أحيانًا شهوة البقاء، البقاء من دون بهرجة الهرب الزائفة، لسنا متشابهين، لكننا تشابهنا باختيار أمنية نجمة هربت واختبأت على الأرض هنا، لتحيك لنفسها قطعة سماء أوسع، أكثر بقليل من أخذ نفس عميق.
اعتدت الخروج غريبًا من المنزل كل يوم كأول مرة أكون فيها هنا، في هذه المدينة، شوارع وأزقة أعرفها بدأت التعرّف عليها من جديد، عبرت الشوارع والأدراج والجسور نفسها، لم يتغير شيء سوى أنه ليس هنالك محطة قطار لأرتادها ولا أنتظر أحدًا، ولا قطار حتى استقله وابتعد أو حتى أن أؤلف على متنه قصيدة ما، بقيت أمشي الوقت كله، دخلت إلى المقهى العتيق نفسه الذي أحفظ عن ظهر قلب ما يقدمه، لكنني بقيت أكثر من نصف ساعة حائرًا، لم يتغير تفصيل واحد، حتى مساحة الإعلانات فيه، المثير للانتباه والسخرية فيها هو صورة إعلان تبدو مزحة أو سخرية ما: "مطلوب قاتل محترف، ذو خبرة لا تقل عن بدء الوجود على متن هذا الكوكب"، بخط عريض، كانت هذهِ بدايةُ الإعلان الملصق على الباب وتلته معلومات اتصال، بجدية مثيرة للانتباه، حتى جدية بناء الإعلان وخلوه من أية تلميحات لأن يكون مزحة، على العكس تمامًا، بجميع الأحوال لن أطلق أحكامًا على صاحب الإعلان بناءً على حكي من في المقهى بأنه من رواده وقد صار عدة أشخاص يقطنون جسدًا واحدًا، وجميعهم اتفقوا على أن المكان بدأ يضيق في الكتلة المتنقلة هذه وعليهم الخروج، مزحت معهم قليلًا وطلبت مشروبي المعتاد وانتظرت.
لا أريدُ أن أكونَ ظالمًا بحقه، أو بحقهم، من الممكن أنهُ وصلَ مرحلة يأسٍ لا بأسَ بها لمجرد التفكير في البحث عن انتحاره بطريقة طفولية كهذه، سذاجةُ عدم الخوف يمكنها التحكّم بكل هذه التصرفات، أو حتى سذاجة عدم فهم الخوف، لذلك من الممكن جدًا أن إعلانه هذا ليسَ ارتجاليًا ولا هو وليد ساعتهِ. أعتقد أن للوقت حتى مكان هنا، دقائقه ولحظاته كلها التي غالبًا يمكن تفصيلها: من الممكن أنه يملك دقائق لتذكر أي شيء كان ليتفحص زوايا ذاكرته، دقائق ليفكر بأي شيء إلا وجوده، دقائق للقلق، للخيال، للهو، دقائق للتفاصيل الحية التي يعيدها في ذاكرته والتي سيخصص لها دقائق أخرى بعيدة عن دقائق التذكر، لذلك هناك أيضًا لحظات استراحات ليراكم أحلامهِ وأوهامه وحطام ما تبقى في زاوية ما، أيام يقضيها كجسد فقط، كشيء، وهناك بالطبع لحظات للسخرية، السخرية عادة تشبه الخوف، والحبّ والوحشة، تدفع بالدقائق كلها لتصبح فارغة، أو لتمتلئ أكثر وتعبأ تفاصيل يبقى حيًا عليها.
السخرية، (Sarcasm) بالإنجليزية، الآتية من (sarkasmós) اليونانية بنفس المعنى اصطلاحًا، وهي من (sarkázein) التي هي السخرية، قضم الشفاه، أو تقطيع وسلخ اللحم البشري، تمامًا كسلخ السخرية للقشر لتظهر حقيقة الشيء ببساطة، كبساطة كل حزن وسعادة وتعقيد واشمئزاز من الواقع ولا معقولية هدوء مقطوعات إيريك ساتيه الموسيقية التي سخر فيها من كل شيء منذ ذلك الحين حتى الآن، تمرّد على رتابة حياة النوتة، كموسيقي من العصور الوسطى، هام بالخطأ للقرن العشرين ومات معزولاً بغرفة تحوي طاولة وسريرًا وكرسيًا وآلتي بيانو مهشمتين، وأكداسًا من النوتات والمقطوعات التي كان أنانيًا فيها، غرفة باردة لم يدخلها غيره. عزل نفسه سبعةً وعشرين عامًا، لذلك، وبالعودة لصاحب الإعلان، أجزم أن لديه دقائق للموسيقى يسخر فيها من باقي الوقت، ليست سوى محاولة منه ليثبت لنفسه أنه حي، أو ليثبت أنه كان حيًا بالفعل لبضع دقائق، ليثبت أن كل علامة موسيقية كانت تتجسد أمامه وتداعب خياله.
المهم، شربت هذه الكأس التي لا أعتقد أنه علي تغييرها حتى لو عدت غريبًا، وعدت للمشي والتعرف على مدينة أعرفها من جديد.
لا يوجد مكان أفضل من مدينة في الليل، مدينة كاملة بشوارعها وسمائها ونشوتها وبحرها وأبنيتها وجدرانها وشبابيكها ونبضها وغربائها وكارهيها وعاشقيها والبعيدين عنها، مدينة كاملة هادئة ساكنة لا يشوبها سواي في هذا الوقت، بعد ساعات عديدة من المشي، تمزّق حذائي وبدأت أشعر بالدم الذي يكز حول جرح ليدفئه، لم يكن أمره مهمًا بقدر الدقائق التي كان للدفء مكان حقيقي أستطيع الوصول له.
أمشي عائدًا الى غرفتي وأنكمش في السرير كقنفذ تحت كومة من الثياب، كومة مهيبة من الثياب التي ترتدي السرير، ابدأ ككل يوم بتهييجها للقيام بعملية تمرد وتغيير، للتحرك، للثورة، للنهوض والعربشة على أحلامها كلها.
دخلت إلى المقهى العتيق نفسه الذي أحفظ عن ظهر قلب ما يقدمه، لكنني بقيت أكثر من نصف ساعة حائرًا، لم يتغير تفصيل واحد، حتى مساحة الإعلانات فيه، المثير للانتباه والسخرية فيها هو صورة إعلان تبدو مزحة أو سخرية ما: "مطلوب قاتل محترف، ذو خبرة لا تقل عن بدء الوجود على متن هذا الكوكب".
أتحول أحيانًا لأصبح عصام الشوالي حتى، يتجاوب جميع مما لم يزل يرى ذلك الضوء البعيد في نهاية النفق، يرفع الجميع يافطات ضخمة، الكل يطالب على هواه، كما يشتهي، فالقبعة تطالب بإسقاط الرأس والقيام بانقلاب شامل، النظارات تطالب بفقء العينين، وعودة الخيال من المنفى.
السخرية، (Sarcasm) بالإنجليزية، الآتية من (sarkasmós) اليونانية بنفس المعنى اصطلاحًا، وهي من (sarkázein) التي هي السخرية، قضم الشفاه، أو تقطيع وسلخ اللحم البشري، تمامًا كسلخ السخرية للقشر لتظهر حقيقة الشيء ببساطة، كبساطة كل حزن وسعادة وتعقيد واشمئزاز من الواقع.
أتحول أحيانًا لأصبح عصام الشوالي حتى، يتجاوب جميع مما لم يزل يرى ذلك الضوء البعيد في نهاية النفق، يرفع الجميع يافطات ضخمة، الكل يطالب على هواه، كما يشتهي، فالقبعة تطالب بإسقاط الرأس والقيام بانقلاب شامل، النظارات تطالب بفقء العينين، وعودة الخيال من المنفى، الوشاح يريد وضع الحنجرة في حبس انفرادي مدى الحياة، الكنزة تريد تمزيق القفص الصدري وطحن ما بداخله، البنطال يطالب بسلخ السلطة، فيتفق بذلك مع الرأس، أما الجوارب فقد وقفت على الحياد، ...، مدهش، لم يكن أمامي سوى الانهزام، أو العودة للمشي حتى أجبرها على الإنهاك، يجب أن أجبرها على مساعدتي للهرب إلى القليل من النوم، أحاول دائمًا عدم التأخر على حلم يبعد مسافة عدة دقائق في سخرية الوقت منا.
أنهض من انكماشي وأخرج من جديد للمشي مسافات ووقتًا أطول، أدور في شوارع فارغة وهادئة بضوء أصفر يخفت ليحل مكانه اللون السماوي الباهت بصقيعه، ما زلت أبحث عن محطة قطار لأنتظرك فيها، لأتظاهر بذلك، كي اتأخر مجددًا، بدأت أذني تصبح باردة من الداخل، تتراشق سوائل من عينيّ وأنفي، صوت الهواء في هدوء ليل كهذه المدينة يبدو كتعثر كلمات كان يجب أن تحكى، يبدأ الانهاك يجدي، إذن، من جديد... غرفتي، قنفذ، عصام الشوالي، الجميع منهك هذه المرة، لم يبق لي الآن سوى أن استسلم أنا الآخر وأعربش فوق سور الأرق لأزيح كل هذا الغيم من أمام السماء، هناك فقط يمكنني هزم كل الدقائق والمسافات، وقطع القماش السخيف الرث هذا.
أستيقظ بعد دقائق، أحاول إحداث أكبر ضجة ممكنة، أحرّك الأشياء، لم أهزم أي مسافة بعد، أقرقع، أهمس للوقت ليستيقظ، لم يهزمني الله بعد، لم أهزمه أنا الآخر، أهمس لتلك النجمة، أسلخ الدقائق لتصبح ثواني، تصبح تفاصيلها خربشة على جدار مهجور، التقط سيجارة وأرمي القداحة أرضًا، صوت صوت صوت، أرمي بجسدي على السرير، أستلقي وأنفخ الدخان عاليًا حتى يصير غيمًا وحشيًا، أنفخ الدخان بهدوء وابتعد عن هلع أن دقيقة بلا تفاصيل انتهت، فراغ آخر أنفخ الدخان فيه وانتظر وحشية الغيم تلك لتبتعد من أمام السماء، أنتظر مشهد غيابك من جديد، والموت البطيء لذلك الغيم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون