"يوم 25 يناير هو عيد الشرطة يوم إجازة رسمية.. لو نزلنا 100 ألف واحد في القاهرة محدش هيقف قصادنا .. يا ترى نقدر؟".
هكذا نشرت صفحة كلنا خالد السعيد في الثلاثين من كانون الأوّل/ ديسمبر 2010 التي حددت موعد بداية الثورة على صفحتها على فيسبوك، ولم يتكلف الأمر سوى 3 أيام من الصمود ليتحوّل هذا المنشور إلى ثورة غضب عارمة في كل محافظات مصر، حتى أن المئة ألف أصبحت ملايين في شوارع القاهرة والإسكندرية والسويس وبورسعيد والمنيا، وبضع مئات في باقي المحافظات ناحية الوجه القبلي للجمهورية.
أتذكر في يوم 27 يناير أننا في قنا وهي إحدى محافظات الصعيد الرئيسية، فوجئنا برسالة نقشها أحدهم على جسد قطار الصعيد تحمل عبارات لوم وسب وعتاب لأننا لم نُشارك منذ اليوم الأوّل للثورة، أو ربما لأن الثوار في القاهرة كانوا يتوقعون أن يخرج الصعايدة بسلاحهم ليدكوا حصون قوات الشرطة بسهولة، الأمر الذي كان سيضع لثوار القاهرة قدمًا فوق رقاب الجهاز في وقت أسرع بكل تأكيد، الرسالة التي بُعثت إلينا كانت جملة واحدة: "لو عايز نسوان روح قنا وأسوان"، في إشارة إلى عدم تحمل رجال الصعيد مسؤوليتهم والمشاركة في الثورة (كذلك إلى موروث العقلية الذكورية التي ترى بالنساء أقل قيمة من الرجال، وتستخف بهن)، لنرد نحن كذلك برسالة على قطار آخر مُفادها: "لو عايز بلطجية روح القاهرة وإسكندرية"، باعتبار ما كان يحدث حينها من عنف وتكسير وفوضى ونهب للمحلات التجارية من بعض الفئات بسبب الانفلات الأمني، وهكذا لم يعرف أحد لماذا لم ينتفض الصعيد إلا عقب 28 يناير جمعة الغضب -إلا أعداد قليلة بالعشرات خرجت في موعد الثورة-، بينما القصة كاملة كانت في أدراج فيسبوك يحتفظ بها ربما لننشرها اليوم بعد 8 سنوات كاملة من أول هتاف أُطلق وقتها: الشعب يريد إسقاط النظام.
الصعيد، 24 يناير
القصة الأهم في تلك القضية ليست تلك التي يحكيها الجميع عن الثمانية عشر يومًا للثورة، ولكن ما قبلها، ولمن لا يعرف كيف كان يقضي شاب صعيدي يومه العادي ما قبل الثورة، أو لمن يتخيل أن الشباب في قنا مثلاً كانوا يتصفحون موقع فيسبوك ويغمضون أعينهم كلما ظهرت لهم تدوينة تدعو للثورة المنتظرة، فيجب أن تكون هناك نظرة ثانية للأمور، ليس لتبرئة الصعايدة من ذلك "الإثم الشديد" ولكن حتى يتلمس الجميع جسد آلة الزمن التي تربط بين وجه قبلي ووجه بحري (محافظات الجنوب والشمال) دون أن يدري أحد عنها شيئاً.
بغض النظر عن عدد قليل من الشباب الذين كانوا يدرسون أو يعملون في محافظات الوجه البحري، فباقي شباب الصعيد لم يكن يضع نصب عينيه تصفح فيسبوك أو تويتر بحثًا عن أي دعوة للثورة، بل معظم الشباب هنا في الصعيد كانوا حينها ما بين حديثي العهد في عالم الفيسبوك أو ما زال لم يخطُ خطوته الأولى في هذا العالم الاجتماعي من الأساس، ربما بضعة مواقع المحادثات مثل skype أو camfrog هي التي كانت على قائمة أولوياتنا في الصعيد لسهولة التواصل مع أقاربنا خارج مصر والاطمئنان عليهم، مع العلم أنه حتى ذلك الوقت لم يكن كل بيت يمتلك جهاز كمبيوتر، بل كان امتلاك هذا الصندوق السحري أمرًا استثنائيًا للغاية، كما هو الآن وجود مول تجاري في مدننا يعني أنه أصبح مزارًا للأعياد والمناسبات كونه شيئاً غير اعتيادي بالنسبة إلينا.
أما عن باقي المصادر التي كانت من الممكن أن تضعنا في خضم مشاعر الغضب والوطنية والحماس الشبابي مثل القنوات التليفزيونية مثلًا، فأنا أتذكر تمامًا أن جميع القنوات كانت حينها تنشر لنا عن حبال المؤامرة المُسلطة على مصر، حتى أنها استضافت بعضاً من النشطاء السياسيين المشهورين بالنسبة لشباب الوجه البحري لحثّهم على الاعتراف بذلك، وصدق أو لا تصدق، لو قرر المذيع أن يصطحب قريباً له ليتقمص دور أشهر ناشط سياسي شاب حينها لما كنا سنعرف الفرق أو نكشف الخدعة حتى في أقاليمنا المعزولة.
وقبل أن أتحدث عن القطار الذي أقّل فيسبوك إلى مدينتنا سيتوجب علي عرض بعض الحقائق من ناحية الأرقام والإحصاءات الخاصة بشهرته، فقبل الثورة كان أقل من 10 ملايين مشترك مصري قد نالوا شرف التعرف على شخصيّة "فيسبوك" بنسبة 12% تقريبًا من إجمالي عدد الشعب المصري بكل أطيافه، أما حاليًا فقد أصبح الأشهر بكل تأكيد بجماهيرية وصلت إلى 37 مليون بنسبة 38% تقريبًا أي أكثر من ثلث الشعب يُعد نشطاً على موقع الفيسبوك.
لم يعرف أحد لماذا لم ينتفض الصعيد إلا عقب 28 يناير جمعة الغضب -إلا أعداد قليلة بالعشرات خرجت في موعد الثورة-، بينما القصة كاملة كانت في أدراج فيسبوك يحتفظ بها ربما لننشرها اليوم بعد 8 سنوات كاملة من أول هتاف أُطلق وقتها: الشعب يريد إسقاط النظام.
بغض النظر عن عدد قليل من الشباب الذين كانوا يدرسون أو يعملون في محافظات الوجه البحري، فباقي شباب الصعيد لم يكن يضع نصب عينيه تصفح فيسبوك أو تويتر بحثًا عن أي دعوة للثورة، بل معظم الشباب هنا في الصعيد كانوا حينها ما بين حديثي العهد في عالم الفيسبوك.
من 29 يناير إلى نصف فبراير، قرر العديد من شباب الصعيد إنشاء حسابات على موقع فيسبوك لمتابعة حقيقة ما يحدث، ذلك أن القنوات التلفزيونية لم تكن تنقل لنا أي درجة من درجات المشهد الحقيقي.
مرحبًا بك يا فيسبوك في محطة الصعيد
من 29 يناير إلى نصف فبراير، قرر العديد من شباب الصعيد إنشاء حسابات على موقع فيسبوك لمتابعة حقيقة ما يحدث، السبب الأول، وهو ما قمت به أنا وأعتقد أنه سبب دارج لدى الكثيرين، ذلك أن القنوات التلفزيونية لم تكن تنقل لنا أي درجة من درجات المشهد الحقيقي، وهذا ما سمعناه من رفاقنا في ميدان التحرير ممن يقومون بالدراسة هناك أو العمل، وتيقنا منه حينما تجاهل الإعلام ذكر أي أخبار عن خروج عدد لا بأس به في جمعة الغضب 28 يناير في بلادنا، بل كانت الأخبار تحمل عبارات التأييد وكأن مصر قد انقسمت بين وجه بحري ثائر ووجه قبلي متواطئ ومؤيد لحكومة مبارك، لذا فقد قرر بعضنا استخدام صديقنا الجديد فيسبوك لنشر الحقيقة فيما اهتم آخرون بمتابعتها من "ميدان التحرير".
منذ ذلك الحين أصبحت القنوات الفضائية مجرد ديكور منزلي ما عدا ربما قناة ON TV وبالطبع قناة الجزيرة، ولكن الأنباء المهمة كنا نحملها من مراكز خدمات الكمبيوتر إلى المنازل، إذ كنا نحجز ساعة أو أكثر نتابع فيها حسابات تلك الأسماء التي سمعنا عنها في القنوات المذكورة سابقًا، مثل 6 أبريل ووائل غنيم وبالطبع صفحة كلنا خالد سعيد، وأستطيع أن أقول بلا تحيز وبكل منطق إنه إذا كان استيعاب ما يحدث في القاهرة أمرًا عسيرًا على سكانها واحتاج إلى ثلاثة أيام كاملة لمعرفة حقيقته، فإن استيعاب أهل الصعيد لكل تلك الأحداث المتلاحقة نسبيًا كان أسرع وفقًا للمعطيات السابقة.
وهكذا كانت رحلة فيسبوك إلى أقاليم مصر متأخرة وبطيئة، تمامًا مثل رحلات الخدمات والإصلاحات والمشاهير إلى نفس الأقاليم، وعلى كل حال والشيء بالشيء يذكر، فضيفنا العزيز سوف يكون نعم الرفيق في العام الجديد كذلك ونحن نتطلع لعيش مغامرة تنظيم كأس الأمم الأفريقية 2019 في مصر، فبما أننا اعتدنا تقلص حدود مصر لتحتوي فقط على محافظات الوجه البحري في تنظيم مثل تلك المهرجانات واستقبالها دون الصعيد، على الرغم من الأجواء الآمنة هنا في أقاليمنا والتي تتفوق على درجات الأمان في الوجه البحري وكذلك تزيّن محافظات الصعيد بجوهرتي الأقصر وأسوان إلى جانب ضمان حضور كبير للمشجعين المسالمين تمامًا دون أي سابقة في أعمال العنف، ولكن على ما يبدو كل تلك الأشياء لا قيمة لها وسنضطر مجددًا إلى متابعة حماس الوجه البحري وهو يشتعل أثناء البطولة عبر نظارة فيسبوك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...