كانت إحدى الصباحات الشتوية.. لم أتخيل يومًا أن أحظى بتمشية نهارية مع عازف البيانو المصري العالمي رمزي يسى في شوارع وسط البلد، كان ميعاد لقائنا في أحد فنادق العاصمة التي شُيدت حديثًا وتطل على ميدان التحرير، جمعتنا صدفة الوصول في الميعاد المحدد على بوابة الأوتيل، قررنا تغيير وِجهَتنا لكافية "ريش" بشارع سليمان أباظة ( طلعت حرب) لتناول قهوتنا الصباحية وإجراء المقابلة.
يستعيد "يسى" أثناء سيرنا ذكرياته مع منطقة وسط البلد الذي يعيش فيها منذ الخمسينيات، ويُفضل الابتعاد عنها للمدن السكنية الجديدة، لقربها من دار الأوبرا، كما يُشير إلى الفندق الحديث وإنه كان يحل مكانه قبل سنوات بعيدة قصر هدى شعراوي (إحدى نِسويات القرن 20).
حصل يسى على العديد من الجوائز الدولية: ميدالية فرانز ليست التذكارية وجائزة الدولة التقديرية بمصر عام 2007 .
تحدثنا معه عن الموسيقى الكلاسيكية ومشواره الفني الذي بدأ من كونسرفاتوار القاهرة ثم التحاقه بمعهد تشايكوفسكي في موسكو تحت إشراف البروفيسور دورينسكي، حتى عزفه على أعظم مسارح العالم وصولاً لتدريسه الآن بمعهد" Alfred Cortot” في باريس حيث يعيش منذ عام 1977 .
وتنفرد رصيف 22 بالحديث معه عن زيارته لإسرائيل لإحياء حفلة موسيقية وموقفه من التطبيع الثقافي، وملامح هذه الزيارة. في البداية، شاركت مؤخرًا بمهرجان قصرالمنيل للموسيقى الكلاسيكية في دورته الأولى. كيف ترى تنظيم القطاع الخاص للمهرجانات الفنية في مصر كالجونة والمنيل؟
هي مبادرة تحتاج إلى تحية وتشجيع، لا بد أن يتعاون القطاع الخاص مع الجهات الحكومية، لأن الأخيرة لا تستطيع بمفردها القيام بكل الفاعليات الفنية، لذا لا بد من تشجيع القطاع الخاص ورجال الأعمال وتذليل كافة العقبات التي تواجههم من روتين وإجراءات بيروقراطية، لمزيد من تنظيم هذه الفاعليات الثقافية والمهرجانات سواء للموسيقى أو السينما أو كل الفنون.
ألا ترى أن الموسيقى خدمة وليست مشروعاً ربحياً يتولاه رجال الأعمال؟
دائمًا موضوع رجال الأعمال حساس، وهناك تصور"إنه داخل بفلوسه وهيشترينا"!، ولكن لا أفهم هذه النظرة التي تحمل ارتياباً من دخول رجال الأعمال المجال الفني، فنحن نأتمنهم على بناء مشروعات سكنية وصناعية بالبلد، فكيف نُشكك في نواياهم تجاه الفنون وتحويلها لتجارة ربحية؟ أعتقد أن هذه المخاوف تعود لموروث لدى المصريين منذ سنوات طويلة، عندما كانت الدولة تسيطر على كل شيء.
وأنا عشت نفس الظروف خمس سنوات بالاتحاد السوفياتي، أيام كانت الرقابة قوية.
أتذكر منذ 20 عامًا، أحضرت سكانر صغيراً، تم منع خروجه بالمطار خوفًا من تزوير النقود، في عصر يَسهُل طبع أي ملف ويصل لأي مكان بالعالم في لحظات عبر الإنترنت، هناك مخاوف من أي شيء يُزلزل كيان الدولة. هو نوع من التخلف الزمني.
يبدو من حديثك رفضك نظرية المؤامرة؟
لا ينبغي القاء كل الأزمات على المؤامرة، مصر رغم كل مشاكلها بلد مهمة جدًا، وتتمتع بموقع إستراتيجي سواء بالشرق الأوسط أو إقليمياً، فهي مهد الحضارة، وهذا حقيقي، زرت أسوان مؤخرًا، ستظل جدران المعابد والآثار شاهدة على عظمة الحضارة المصرية وتفردها في الفنون والعلوم والفلك...
وكيف ترى مصر الآن بعد 40 عامًا أمضيتها في أوروبا؟
ستظل جدران المعابد والآثار شاهدة على عظمة الحضارة المصرية وتفردها في الفنون والعلوم والفلكصعب تُعطي حكماً واحداً على مصر الآن، نحن نعيش في فترة صعبة مثل معظم دول العالم، ولكن الأهم أن نتصرف بذكاء وحكمة، ويتم الاستفادة من كل طاقات البلد في كل المجالات. نعود إلى ميلادك بمحافظة "قنا" والسيدة أولجا، ماذا تقول عنها اليوم بعد مشوارك الفني الناجح؟ "أولجا" ليست أمي فقط، بل معلمتي الأولى على المستوى الإنساني والفني، هي مثال للأمانة والانضباط وحب العمل والالتزام، معلمتي التي درست معها عزف البيانو في سنوات عمري الأولى، ثم أحضرت لي معلم بيانو إيطالياً، كما أنها من أوائل أعضاء هيئة التدريس بالمعهد العالي للكونسرفاتوار منذ تأسيسه، وتخرجت من تحت يَدها أجيال كثيرة. كانت تُشجعني دائمًا للتعلم والدراسة ثم الالتحاق بالكونسرفاتوار، وكانت تُتابع نجاحي بالخارج، وتعلمت منها عدم الغرور، والتفاني بالعمل ليس من أجل الشهرة والمال ولكن من أجل النجاح، وهو عكس ما يحدث هذه الأيام مع جيل الشباب. ما هي أبرز المحطات التي تقف عندها في مشوارك الفني؟ دراستي بالكونسرفاتوار بالقاهرة، ثم بروسيا، حيث عشت مرحلة هامة جدًا، كانت بلداً تتمتع برصيد فني فوق الوصف، فالاتحاد السوفياتي كان مغلقاً آنذاك، وهو ما أتاح فرصة مقابلة كبار الموسيقيين في مكان واحد بين سان بطرسبرج وموسكو، ورغم أن الظروف الاقتصادية كانت صعبة وقتها فإن الفنون كانت هي المنفذ الوحيد للجمهور، الذي كان يلجأ للموسيقى ليعيش فترة من الخيال والمتعة الفنية في الواقع المأزوم. https://youtu.be/vVtijYroRG8 بعد 150 سنة على تأسيس دار الأوبرا، لمَ لم تُصبح فنونها جماهيرية؟ لأن الموسيقى الكلاسيكية لم تصل بالقدر الكاف للناس، لم يعد هناك اهتمام بتعليم الموسيقى في مدارسنا، أنا تعلمت في مدارس حكومية، وكانت حصص الموسيقى أساسية، ولها مدرس متخصصة وآلات موسيقية، ولكن الآن اندثر كل ذلك، أتمنى أن تعود هذه الحصص ويصبح الاهتمام بها مثل الرياضيات والكيمياء.
الاتحاد السوفياتي كان مغلقاً آنذاك، وهو ما أتاح فرصة مقابلة كبار الموسيقيين في مكان واحد بين سان بطرسبرج وموسكو، ورغم أن الظروف الاقتصادية كانت صعبة وقتها فإن الفنون كانت هي المنفذ الوحيد للجمهور.
ممكن أن أقاطع طرفاً في موقف معين بزمن معين من أجل إحداث ضغط لفترة ما، ولكن المقاطعة مستمرة منذ الستينيات من كتاب وسينمائيين ومثقفين، ولكن هل هناك نتيجة تحققت من المقاطعة؟شاركت أسماء كبرى لقيادة الأوركسترا مثل فلادمير اشكنازي (الحاصل على جرامي عدة مرات)، كيف تكون العلاقة بين قطبين كبيرين عل المسرح؟ القطب الوحيد هو الموسيقى، حتى لو هناك اختلاف في الأعمار أو الخبرات أو الأسماء التي تعزف على المسرح، المساواة هي الأساس والحوار يكون من أجل إخراج العمل الموسيقي بأفضل شكل. وماذا عن البلاد الأكثر تألقًا الآن موسيقيًا؟ دول آسيا والصين، واليابان، وكوريا. ثلث طلاب العالم في الموسيقى من آسيا، والثلث الآخر هو الفائز بالمسابقات الدولية، حققت هذه الدول طفرة فنية كبيرة، ودعمت مؤسسات تعليم الموسيقى، وأنفقت عليها بسخاء، فالموسيقى ليست رفاهية وموهبة ولكنها تعليم.
الكونسرفاتوار أصبح نقطة في محيط، يحتاج أن ينتشر خارج العاصمة لكل المحافظاتما تقييمك لحال الكونسرفاتوار المصري الآن؟ مصر الآن تعدادها 100 مليون، والكونسرفاتوار أصبح نقطة في محيط، يحتاج أن ينتشر خارج العاصمة لكل المحافظات، مثلما يجب أن تصل كل الفاعليات الفنية والثقافية لكل الأقاليم، رغم تأسيس قصور الثقافة منذ الستينيات ولكنها بحاجة إلى تفعيل دورها بشكل جاد. يجب توفير كل الإمكانيات اللوجيسيتة من الآت موسيقية ومسارح ونظام للحفلات، فهي الفرصة الوحيدة لاكتشاف مواهب شبابية جديدة في كل مجالات الفنون. ولكن أصبح هناك هجرة للعازفين المصريين نحو دور أوبرا الخليج الحديثة. هل المناخ أصبح طارداً للفنانين؟ ليس المناخ ولكن "ضعف الحالة المادية"؛ المقابل المادي لحفلة أو تسجيل أو أغنية تجارية في يوم واحد يساوي أجر عمل شهر كامل بأوركسترا القاهرة السيمفوني، الفجوة زادت عن المحتمل، علماً أن العازفين المصريين مطلوبون جدًا بهذه الدول ، هم ماهرون يستطيعون ان يلعبوا اللوني الشرقي والغربي معا،. سوق الموسيقى لم يعد مناسب للفن الرفيع ، لان الأجور ضعيفة. https://youtu.be/xFtDe7xpY1c كان لك تجربة وحيدة بتقديم مؤلفة موسيقية شرقية للموسيقار محمد عبد الوهاب.. حدثنا عنها؟ عام 1981، حولت أغنية (خطوة حبيبي) لعبد الوهاب لمؤلفة موسيقية كان يعتبرها إضافة له، رغم إقتناعي إنه لم يكن بحاجة لذلك، لأن شهرته في العالم العربي لم يصل لها موسيقيون كبار حتى اليوم. ما تقييمك لمكانة الموسيقى المصرية بالعالم الآن؟ في الخارج، لا يسمعون الجزء المحلي في موسيقانا إن لم يتم تقديمها بطريقة مطابقة للغتهم الموسيقية. قدمت إحدى حفلاتك على مسرح مركز تل أبيب الثقافي، لماذا؟ أول مرة يوجه لي هذا السؤال في الصحف العربية وبالخارج ايضًا، ذهبت ثلاث مرات بين 2014 و 2017 ، إحداهما لإقامة حفلة، ومرتين كعضو لجنة تحكيم لمسابقة دولية، وأعلم أن اجابتي ستثير جدالًا كبيراى، ولكن أنا "مش شايف إيه الضرر من زيارتي لإسرائيل". لا أعتقد أن المقاطعة اسفرت عن شيء، ممكن أن أقاطع طرفاً في موقف معين بزمن معين من أجل إحداث ضغط لفترة ما، ولكن المقاطعة مستمرة منذ الستينيات من كتاب وسينمائيين ومثقفين، ولكن هل هناك نتيجة تحققت من المقاطعة؟ هل قوَت القضية موقفنا؟ هل قوَت حقوق الشعب في الأرض الفلانية؟ عُمري ما آمنت بالمقاطعة كحل. ولكن ستظل المقاطعة إحدى أشكال الرفض وعدم الاعتراف بإسرائيل، ألا تظن؟
أنا لم أطرق أبوابهم في اسرائيل، بل تمت دعوتي للعزف في أكبر القاعات بمشاركة أكبر أوركسترا، وجرى الاحتفاء بي بطريقة مشرفة لمصرإسرائيل دولة معترف بها من مصر ودول عربية أخرى، وبها سفارات وعلاقات دبلوماسية، وعندما سافرت لم أذهب في السر، بل حضر إحدى الحفلات السفير المصري بتل ابيب واستقبلني بطريقة جيدة، أما المشروع الصهيوني الكبير فلن نساوم عليه، ولكن في نفس الوقت، هناك مشاريع مُعلنة أو غير معلنة، بين أمريكا وروسيا، ومشروعات تركيا والخلافة والإخوان. هناك رفض شعبي للتطبيع، وتظل زيارتك لدى البعض تطبيعاً ثقافياً. يعنى إيه تطبيع ثقافي؟ كلمة "ليس لها معنى"، كل الثقافات التي نستقبلها في مصر، هل نعرف من أين تأتي؟ لم يتم اتهامي بالتطبيع، أنا لم أطرق أبوابهم في اسرائيل، بل تمت دعوتي للعزف في أكبر القاعات بمشاركة أكبر أوركسترا، وجرى الاحتفاء بي بطريقة مشرفة لمصر، لم أذهب كومبارس، وشاركت كعضو لجنة تحكيم بجنسيتي المصرية. الأ تخشى أن هذه الزيارة تُفقدك بعض جمهورك في مصر؟ أريد شخصاً يوضح لي أي نتيجة سلبية حدثت من زيارتي لإسرائيل. مشاركتي في لجنة تحكيم عالمية أمر إيجابي لمصر، خاصة أن العرب المشاركين في مثل هذه المسابقات يعدون على أصابع اليد الواحدة. ولكن الضرب والقتل يحدث من الكيان الاستعماري مقابل مواطنين عُزل؟ فكرة الحروب استنزفت البشرية، ونرى منذ فترة العالم يتذكر الحرب العالمية الأولى التي أهدرت ملايين الأرواح، وفي النهاية لجأت الدول للسياسة والحوار. هل يمكن أن تذهب مرة أخرى لإحياء حفلة بإسرائيل؟ لو أجبت بالرفض، أبدو كأني نادم على المرات السابقة. ذهبت كعازف مصري، تم الاحتفاء به، لم اذهب للحصول على منفعة أو استفادة ما، أنا رجل حكّمت في أكثر من 25 مسابقة عالمية، لم أكن منتظرًا لمجد تضيفه إلي مسابقة بإسرائيل، ولكن أنا ذهبت إنطلاقًا من اثبات وجود عربي مصري في موقع لجان التحكيم، واخيرًا أنا وصلت لمرحلة عمرية لست بحاجة لإثبات شيء لأحد، لن أغير افكاري الآن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين