مجرّد التفكير في الموعد معها يسبّب لها التوترَ، وذلك القلق الذي تشوبه الحماسة. بعد انقطاع طويل تعود إلى مجال إدارة المشاريع الثقافية، حيث بدأتْ كمديرةٍ للبرامج في إحدى المراكز الثقافيّة الأوروبية المرموقة. الآن، وبعد ثلاث شهادات، وولدين، وبلدٍ جديد، ومدينة جديدة، جنسية جديدة، ورخصة سياقة جديدة، ومنزل في أحد أرقى الأحياء في العاصمة، تذهب لتلتقي بمن جاءت لتوّها إلى المدينة بحثاً عن حياةٍ جديدة. امرأتان في العمر نفسِه، تبدأ الواحدة منهما في هذه المدينة ما بدأتْه الأخرى قبل عشر سنوات: حياة جديدة، بفرصٍ أخرى لتحقيق الذّات وبلوغ الشغف. بالرغم من أنّ "صفاء" تسكن المدينة منذ عشر سنوات، إلا أنها تشعر بالتوجّس المصحوب بالغيرة من هذه القادمة الجديدة إلى مدينتها. أهي غيرة على مدينتها؟ اللؤلؤة التي يجب أن تظلّ مصانةً من دفقِ السُّياح والوافدين الجدد والنازحين واللاجئين؟ أم الغيرة لأن المرأة الأخرى، هي مرآة لها، وصورة عنها، وهي تحظى الآن بفرصتِها لتحقيقِ ذاتِها في مدينة الحرّية والأحلام التي تتحقق؟ لماذا تغار صفاءُ من "ليلى"، وهي أخذتْ فرصتَها وحقّقت كلّ ما يمكن تحقيقه وأكثر؟ ربّما لأن ليلى حرّة عكس صفاء! حرّة بوقتِها وعلاقاتها وأولوياتها؛ فهي ليست متزوّجة، وليست أمّاً، وليست موظّفة بدوامٍ ثابت، وليس عليها مستحقّات للبنوك؛ المرأةُ الحلم التي تعيش الحياة المتاقة متخفّفة من كلّ المسؤوليات والهموم، عليها أن تهتمّ بنفسِها فقط، وأن تقلق على نفسِها فقط.
بإمكانها أن تدخّنَ سيجارةَ حشيشة تشتريها بعشرة يورو من الغورليتزر بارك، بعدها تجلس شبهَ عارية في غرفتِها، تشرب قنّينةً من النّبيذ الأحمر لوحدِها، وتكتب، أو تسمع الموسيقى، أو تؤلّف الهايكو؛ قد ترقص، تقهقه، تتكلّم عبر تطبيق "وقت الوجه" مع صديقتِها، ثم تعود إلى كتابةِ مشروعِها من أجل الحصول على هبةٍ مالية من إحدى مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
تدرك تماماً أنّه لن يكتفي بالكأس، وأنّه سيريد النوم معها. لا بأس، فقنّينة النبيذ والنّصف اللذان استهلكتهما، وسيجارة الحشيش والسجائر اللاحقة لم تشبع بعد نهمَها للّذّة لهذا اليوم. الشابّ جيّدٌ في الفراش، وهذه نهاية أفضل من سيئة لليلتها. يدقّ الإنترفون في الشقّة. تفتح له باب المدخل، وتنتظره فاتحة باب الشقّة ممسكة بكأسِها شبه الفارغة.تنام ليلى حين تنعس فجراً أو عند الصباح حتى، بعد ليلة قضتْها في حفلة موسيقية، انتهت بمضاجعةِ من انتقتْه من ذلك الحفل بعد الكثير الكثيرِ من النّبيذ والكحول. بإمكانها أن تدخّنَ سيجارةَ حشيشة تشتريها بعشرة يورو من الغورليتزر بارك، بعدها تجلس شبهَ عارية في غرفتِها، تشرب قنّينةً من النّبيذ الأحمر لوحدِها، وتكتب، أو تسمع الموسيقى، أو تؤلّف الهايكو؛ قد ترقص، تقهقه، تتكلّم عبر تطبيق "وقت الوجه" مع صديقتِها، ثم تعود إلى كتابةِ مشروعِها من أجل الحصول على هبةٍ مالية من إحدى مؤسسات الاتحاد الأوروبي. لا يشوب سحابةَ المتعة والعزلة تلك سوى انتهاء قنينةِ النّبيذ. لا يهمّ، كلّ ما عليها فعلُه في شارع فيسير في نوي كولن هو النزول إلى أحد "الدكاكين المتأخرة" أو "الشبيتي" كما تدعى في برلين حصراً، وأن تشتري من الرّجل التّركي الذي يفتح ٢٤ ساعة قنينةَ نبيذٍ وسجائر، وربّما لوحاً من الشوكولا، فالحشيشة تجعلها تشتهي السُّكّر والحلو. الحرارة في الخارج تقارب الصّفر، ورغم أنها بملابسها الداخليّة فقط، فإنها ترتدي فوقَها معطفَها الصوفيّ الطّويل فقط، ولا تغلق الأزرار بل تمسك بطرفي المعطف بيدٍ واحدة لتغلقه. تلفّ شالاً من الصوف حول عنقِها بسرعة، وتنتعل حذاءَها بدون كلساتٍ مباشرة. لا بأس، فبوطها الشتويّ محشوّ بصوف الخروف الأبيض من الداخل، من ماركة عالمية معروفة مخصّصة بأحذية الثلوج. المهمّ أنه ما لم تكن الحرارة تحت الصّفر فهي ليست بحاجةٍ لجواربَ بوجودِ هذا البوط المحشوّ بالصّوف النّاعم. خلال ثلاث دقائق تنزل إلى الشبيتي. تشتري ما ينقصها، وتصعد إلى شقّتها مجدّداً، وهي تدخّن سيجارة. التّدخين في مدخل المبنى ممنوع، ولكن لا يهمّ، إنها الساعة الثالة فجراً، فمن سيلاحظ الآن؟ تتذكّر مشادّتها السابقة مع صاحبة الشقّة التي تستأجرها؛ فهي قالت لها إن الشقّة يجب أن تبقى خالية من التدخين، وذلك لأنّ الرائحة تبقى في المكان، وهذا ما سيحول دون إيجاد مستأجر جديد بسهولة في المستقبل. تفكّر أن الألمان فعلاً متيبسون، غير مرِنين، لا يعرفون كيف يعيشون. يكبّلون أنفسهم ويعقدون حيواتِهم بقوانينَ صارمةٍ لا تنتهي، ولا جدوى منها. يرنّ هاتفها، يتّصل بها شابٌّ تعرّفت إليه مؤخّراً عبر تطبيق تيندر. يقول لها إنه يسهر في منطقتها، وإن كان بإمكانِه أن يصعد إليها لاحتساء الابزاكر ، أو آخر كأس لليلة. كانت الابزاكر أوّلَ كلمةٍ تعلّمتها بالألمانية، وهي تعني آخر كأسٍ يحتسيه الإنسان قبل العودة إلى بيته؛ كأس ختام السهرة. تدرك تماماً أنّه لن يكتفي بالكأس، وأنّه سيريد النوم معها. لا بأس، فقنّينة النبيذ والنّصف اللذان استهلكتهما، وسيجارة الحشيش والسجائر اللاحقة لم تشبع بعد نهمَها للّذّة لهذا اليوم. الشابّ جيّدٌ في الفراش، وهذه نهاية أفضل من سيئة لليلتها. يدقّ الإنترفون في الشقّة. تفتح له باب المدخل، وتنتظره فاتحة باب الشقّة ممسكة بكأسِها شبه الفارغة. تُصرِفه بعد الجنس؛ لا تحبّ أن ينامَ الشبابُ في غرفتِها؛ فهي تريد أن تنام طويلاً صباحاً، وتريد أن تكونَ وحدَها عندما تستيقظ. لا تريد أن تضطرَّ لاحتساء القهوة معه في الضّحى، ومبادلته أطراف الحديث، والتّظاهر بأنها تهتمّ. كلّ ما تريده منه هو جسده الجميل، عضوه الكبير، وأداؤه الجيّد في السّرير. لحظات من المتعة، وبعدها تطرده إلى الخارج. تحسّ بالتمكّن منذ عاهدتْ نفسَها أن تفكّر بالعلاقات العابرة كالرّجال. تدوّن ملاحظة عقلية بأن عليها أن تكون حاضرةً ذهنياً غداً بعد الظهر للقاءِ تلك المرأة. لا تعرف كيف تصنّفها بعد، ولكنها تبدو من الذين لا يودّون مغادرةَ منطقة الأمان الخاصّة بهم؛ عالقةٌ بين مكانين، تُقدم ولا تُقدم تماماً. في اللحظة الأخيرة تعتذر وتتراجع وتهرب... إلى أين يا ترى؟ (يتبع)
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...