يعرّف وسام جبران آلة العود على أنها ملكة الآلات الوترية، وهذا يضعنا أمام علامة استفهام كبيرة، لأننا في الحقيقة بدأنا نشعر بغياب هذه الآلة، خصوصا في ظل الموسيقى الإلكترونية التي اكتسحت العالم، ولكن خطورة الموقف تتجلى في غياب صنّاع هذه الآلة، التي تنتمي إلى المنطقة العربية، وبالتالي فنحن من نتحمّل مسؤولية إبقائها حيّة وفاعلة.
تاريخ صناعة العود في فلسطين
إن جمع تاريخ صناعة العود في فلسطين ليس بالأمر الهيّن، ويعود ذلك إلى أن احتراف هذه الصناعة كان عملاً شبه فردي، يعود في أصله إلى عائلات برعت في هذا المجال، قبل أن تؤسَّسَ الأكاديميات، واستمر بعض هذه العائلات بالحفاظ على سير الحرفة، حتى يومنا هذا. ومن هذه العائلات، عائلة جبران من مدينة الناصرة، والذين عرفنا منهم "الثلاثي جبران" العازفين العالميين، الذين استطاعوا أن يثبتوا لونهم الخاص على قائمة العزف الشرقي على آلة العود، وعرفنا أعمالهم التي اعتمدت على ثلاثة أعواد، في ما يشبه الجوقة الوترية، على غير عادة، بعد أن اعتدنا أن نرى العود وحيداً في الفرقة. ما لا يعرفه الجميع أن الثلاثي جبران يعزفون على أعوادٍ من صنعهم، وأنهم ينتمون إلى عائلةٍ عريقةٍ في مجال صناعة العود، على مستوى بلاد الشام، وأنهم يشكّلون الجيل الرابع من هذه العائلة. ففي حوار خاص، يقول وسام جبران إن تاريخ الحرفة في العائلة بدأ بالفرد المتعدّد ديب جبران (1876-1951) الذي وُلد في الناصرة شمالي فلسطين، وكان نجّاراً متميزاً بحق وكان، تعليلاً لمقولة الفرد المتعدّد، مزخرفاً ونقّاشاً وخطاطاً، وكان فوق ذلك كلّه، يهوى صناعة الأعواد.يعرّف وسام جبران آلة العود على أنها ملكة الآلات الوترية، وهذا يضعنا أمام علامة استفهام كبيرة، لأننا في الحقيقة بدأنا نشعر بغياب هذه الآلة، الخطورة تتجلى في غياب صنّاع هذه الآلة، التي تنتمي إلى المنطقة العربية.
ما لا يعرفه الجميع أن الثلاثي جبران يعزفون على أعوادٍ من صنعهم، وأنهم ينتمون إلى عائلةٍ عريقةٍ في مجال صناعة العود، على مستوى بلاد الشام، وأنهم يشكّلون الجيل الرابع من هذه العائلة.ولم يكن اختياره للأخشاب التي يصنع منها أعواده عشوائياً، كان يُدرك تنوّع الأخشاب ويُدرك، بالتالي، كثافتها وانسجامها وطواعيتها أو عدم طواعيتها للتشكيل، وتمكّن بذلك من الوصول إلى نتائج ممتازة على مستوى الشكل الخارجي للعود؛ الأمر الذي أثّر على ميزة صوت الأعواد التي صنعها بحرفيّة رفيعة. ويؤكّد وسام أن ديب جبران كان على علاقة بعائلة نحّات السوريّة المشهورة بصناعة الأعواد، والعلامات الفارقة لعود ديب جبران من حيث الشكل الخارجي والزخارف والمواد المستخدمة في الصناعة تدعم وجود هكذا علاقة، وهذا أمر يجدّد التأكيد على ترابط الثقافة الشاميّة ونضوجها في معترك واحد. يواصل وسام جبران، شارحاً قسوة ديب في التعامل مع أبنائه الستة، الذين علّمهم النجارة، وحثّهم على التلهّي بصناعة غرف النوم والخزائن، والابتعاد عن صناعة الأعواد، لأنها لا تطعم صانعها خبزاً، كان يدشّن مشغله في العليّة ويطرد كل من أراد أن يتعلّم صناعة العود من أبنائه، لئلا تشدّه الموسيقى ويتورّط في وجع الصناعة والعزف. إلا أن باسم ديب جبران (1932-1988) تمكّن من تعلّم هذه الحرفة لوحده، ليصبح فاتح الجيل الثاني من سلسلة الأجيال الجبرانيّة الأربعة. يُذكر أن باسم ديب جبران برع، إلى جانب الصناعة، في العزف على آلتي العود والكمان، وتحفظ الذاكرة الشعبية لمدينة الناصرة العديد من السهرات التي أحياها بصحبة أخيه العازف بديع جبران. أما حاتم مبدى جبران (1944-) فكان العلامة الثالثة على الطريق، وهو الذي نقل صناعة الآلة والحرفة إلى فضاء جديد، كما يقول وسام، فقد تأثّر بابني عمه باسم وبديع جبران، وكان يراقبهما وهما يصنعان ويعزفان بشغفٍ واهتمامٍ شديدين. لم يتمكّن حاتم، نتيجة الظروف القاسية، من شراء آلة عود خاصّة به، ولم تتوفّر له فرصة تعلّم العزف، لكنه تمكّن عام 1983 من صناعة أوّل عود، إلا أنه برع بعد ذلك في صناعة آلة الكمان، وأنتج أوّل آلة كمان عام 1985، ويروي وسام أن والده حاتم أدرك أن الخشب الذي صَنع منه الكمان لم يكن ملائماً، فقرر أن يسافر إلى أوروبا ليشتري الخشب الذي يصلح لذلك، وسافر طبعاً بالبحر لأن تكلفة السفر لم تكن هيّنة، وعندما وصل المصنع بعد عناء، رفضوا أن يبيعوه الخشب، لأنه لا يملك شهادة صناعة الكمان، ولكنه أبرز لهم صوره التي تُثبت أنه صانع كمان محترف، فرضخوا لرغبته بالشراء، وكان بعد ذلك واحداً من أوائل العرب الذي صنعوا الكمان. كما يُذكر أن حاتم مبدى جبران أنتج آلة العود الأولى بدون إشرافِ أحد، ويشير إلى أن عوده يمتاز، بشكل ملحوظ ومنافس، بجودة الصوت وجودة الصناعة ودقتها. تعلّم سمير جبران الأخ الأكبر في الثلاثي العزف على يد والده حاتم ومعلّمين محليين في فلسطين، ثم أكمل تعليمه في معهد محمد عبد الوهاب في القاهرة، ثم جاء دور وسام، الذي بعد أن تعلّم العزف من خلال أبيه وأخويه، والذي يصف حياتهم بالجام، أو بالحوار الموسيقي الطويل، تعلم الكمان على يد معلّمين روس، قبل أن يكتشف أن العود هو آلته الأقرب، حيث قرّر وسام أن يحترف صناعة العود، ليفتتح الجيل الرابع للعائلة، فلقي تشجيع والده، الذي هيّأه قائلا: "صانع الآلات رح يتوجّع"، قبل وسام جرعة الوجع هذه، وغدا بها سعيداً، فتوجّه إلى معهد أنتونيو ستراديفاري في إيطاليا، ليتتلمذ على يد المعلم جورجو تشي، ويحصد جائزة أفضل صانع كمان عام 2003، قبل أن يتخرّج بعامين. أما عدنان جبران، الأخ الأصغر في الثلاثي، فباشر العزف على آلة العود، ووجد فيها ضالّته. يُبدي وسام جبران قلقه حيال تسارع اندثار صناعة العود، كما يشرح ميزات العود الشامي، الذي يُعدّ الشكل الكلاسيكي للعود، ويؤكّد أن مدينة بيت لحم كانت مشهورة بتصنيع أصداف العود، وتصديرها إلى مُجمل مدن بلاد الشام، كما يلفت النظر إلى التشابه الكبير بين العود الجبراني وعود آل ناجريان في لبنان. وعن العود المصري يقول وسام إن المصريين طوّروا حجم العود ليصبح كبيراً جداً، إلى درجة أن المرأة بحجمها الافتراضي لم تعد قادرة على العزف عليه، وهذه ظاهرة سلبية، يُفترضُ ضرورة معالجتها. أما عن العود العراقي، فيُعيد وسام فتح ملف الجدل حوله، يتساءل ما هو العود العراقي؟ هل هو عود ما قبل منير بشير أم ما بعده؟ ويذكر هنا قصة انعطافة العود العراقي، كما رواها غانم حداد، حيث انكسر فرس عود منير بشير العازف العراقي الكبير، أثناء جولته في أوروبا، ولمّا كان لزاماً أن يصلحه في أقصر وقت ممكن قبل الحفل، اقترح عليه صانع أوروبي حلاً، بأن يجعل الفرس متحركاً، كما هو الحال في آلة المندولين والبزق، وكان ذلك، وعندما عاد إلى العراق أخبر بشير محمد فاضل الصانع المحترف بأن صوت العود صار أقوى وصار قادراً على مقاومة تقلبات الطقس بين أوروبا والعراق، فصنع له فاضل عوداً جديداً، بفرسٍ متحرك، أطلق عليه لاحقاً عود السحب. يصرّح وسام بأن هذه التطوّرات تبدو طارئة، في غياب مؤسّسة عربيّة جامعة، تؤطر هذه التطورات، وتضعها في سياق صحيح، ومن هنا يدعو لطرح هذا الموضوع للنقاش على الطاولة، لافتاً إلى أن هذا هو مشروعه الذي يشتغل عليه؛ مؤسّسة حاضنة لكل الجهود المهتمّة بالعود، من صانعين وعازفين، لتتبنّى إنتاج أجيال جديدة.
التأليف والعزف على آلة العود في فلسطين
يصف الثلاثي جبران موسيقاهم بأنها خلاصة الحياة التي تجري من حولهم، بكل ظروفها، الشهداء والمعتقلون، والشتات، كما يؤكّدون أن قضايا الناس أينما كانوا تتدخّل في نسج موسيقاهم وتشكيلها، ويؤكدون أهميّة الدور الذي لعبه كل من عملوا معهم في تطوير موسيقاهم، والوصول بها إلى الأهداف المبتغاة. عن محمود درويش، يقولون إنه لم يكن شريكاً وصديقاً فحسب، إنما كان مصدر الإلهام، الذي ما زال يرفدهم بالجمال والموسيقى حتى بعد رحيله، وعن الإيقاعي الكبير يوسف حبيش، الذي اشتغل معهم مقطوعات كثيرة، من ضمنها ألبوم أسفار، يقولون إن الكيمياء التي جمعتهم، تسبّبت في خلقِ واقعٍ موسيقي جديد، فيوسف ليس مجرّد ضابط إيقاع، إنما هو موسيقي، يدوزن آلاته فعلاً لتعطي أصواتاً جديدة ومناسبة، كما يشيدون بتجربتهم مع ظافر يوسف الذي أضفت أصواته على مقطوعاتهم أبعاداً جديدة. وقد صدر الألبوم المرتقب للثلاثي بعنوان "المسيرة الطويلة".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...