شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
جوسلين صعب… عرفت الجراح، وثّقتها بالكاميرا وقاومتها

جوسلين صعب… عرفت الجراح، وثّقتها بالكاميرا وقاومتها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 12 يناير 201911:07 ص

ماذا يستحق اللامعون كي يموتوا فيما يعيش القتلة والذباحون والدكتاتوريون بعيون مفتوحة؟ لا عدالة في هذا الكون. نكرر هذا الكلام مع شيخ طريقتنا في التشاؤم إميل سيوران. نرى سقوط البنّائين واحداً تلو الآخر. الأدباء والمفكرون والرسامون والسينمائيون والمخترعون وغيرهم ممن بنوا سلالم فوق الجدران، كي نتسلق ونرى. كي نعرف وندرك أن ما نخاف منه مجرد نكتة سمجة سنتخلص منها. لكن يقابل كل هذا حيوات معمرة للطغاة ومدبجي الحروب والطائفيين ومغتالي الأحلام، وبأشكالهم المختلفة، من رأس القبيلة الى مدير قسم الشرطة وصولاً إلى الرئاسات المتوارثة بطغيانها.

في عالمنا العربي، كلما أفل مبدع وأغلق باباً خلفه رأينا تصدّعنا أكثر وفهمناه. وفهمنا مع موته أن ما نحياه مؤقتًا سيتحلل مع الزمن. كل هذا يحدث أمام فعل التحسر، بيدين لا تستطيعان اقتراف شيء. ننظر إلى القبائلية التي تمزقنا والتدين المفرط النائم بيننا والقتل الصارخ في حياتنا والحروب المارقة بشظاياها كيف تشوهنا وتشوه مستقبل أطفالنا. نحن بقايا المهاجرين والمهجرين واللاجئين والضحايا والقاطنين والرحالة والماشين بخطى واهنة.

حالنا أننا نرى الموت كل يوم ولا نعرف كيف نستدركه وندفشه إلى الخلف. الموت الذي يخطف وجوهَ من نحب. يقتل المعذبين والفقراء والمنسيين والمبدعين من أبناء جلدتنا ممن تقتلهم بلادنا مراراً وتمعسهم بنارها وقسوتها وظلال أنظمتها الأبوية والسلطوية. تمحو رغباتهم في البناء. نراهم يجاهدون قبل أن يموتوا في حمل أثقالهم وأثقالنا. ويهبون عمرهم لأحلامهم المستقطعة، من لحومهم ودمهم، وحين يتخففون قليلاً يأتيهم الموت بأشكال مختلفة. كأن لا أقدار لهم، إلّا الرحيل والعذاب والمنافي، بكل تغريباتها. الموت نفسه الذي يحيد عن الطغاة، صغاراً وكباراً. أولئك الذين يتزايدون في العيش والتمدد والتنعم بحياة كاملة، فيما يموت المبدع في حياته العادية وفي موته المفاجىء. ونكاد نلوم المرض، أياً كان، كيف يعرينا أمام بشاعتنا ويقتل عيوننا الأخيرة (عيونهم) الشاهدة على كل الخراب. ويأتي موت السينمائية اللبنانية جوسلين صعب في هذا السياق، واحدةً من خساراتنا الجمعية كلبنانيين أولاً، وفرنكفونيين ثانياً، وعربٍ في تعدديتنا الثقافية ثالثاً.

جرّبتْ كل أنواع المقاومة، آخرها المرض

هذه المرأة التي لم تتخل يوماً عن التجريب وكأنها خلقت له ومن أجله. خلقت كي تعيش مجرّبة، لكل أنواع المقاومة وآخرها مقاومة المرض الذي هزمها في باريس عن عمر 71 سنة. وهي عاشت دواماتها في هويات مدن كثيرة تنقلت فيها وعبرها. عادت إلى بيروت المفككة والمريضة والمهزومة على نفسها. المنكوبة وسط تناتش الميليشات وشلل الفساد وكونتونات المحاصصة ووحوش المال وسارقي الأملاك العامّة. بيروت التي ستحملها جوسلين معها أينما حطت، وتقاوم من خلالها العيش في مدن أخرى. في لغتها البصرية (أفلاماً وصوراً)، وفي معارضها التجهيزية ورسومها وفي لغتها المحكية.

المرأة المثقفة التي لم تترك الطفلة التي فيها ولا شغفها في التقاط الحياة وتتبع خيوطها. صنعت سينما خاصة بها. توثيقية وتجريبية ومقاومة بفعل الثقافة ضد الجهل والقتل والاحتلال وضد تعليب المرأة والفرد عموماً وبمفهوم أوسع، تشارك في خلط المحلي بالعربي، وما تحمله هذه الثنائية من موضوعات وقضايا مركزية كفلسطين واليسار والتحرر الفردي وأزمة الإنسان مع الأيديولوجيا. هذا الخط الذي رأت عدستها العالم من حولها ولبنان كبلد صغير خرج من الحرب ولم يخرج من عقليتها.

عادت إلى بيروت المفككة والمريضة والمهزومة على نفسها. المنكوبة وسط تناتش الميليشات وشلل الفساد وكونتونات المحاصصة ووحوش المال وسارقي الأملاك العامّة. بيروت التي ستحملها جوسلين معها أينما حطت، وتقاوم من خلالها العيش في مدن أخرى
المرأة المثقفة التي لم تترك الطفلة التي فيها ولا شغفها في التقاط الحياة وتتبع خيوطها. صنعت سينما خاصة بها. توثيقية وتجريبية ومقاومة بفعل الثقافة ضد الجهل والقتل والاحتلال وضد تعليب المرأة والفرد عموماً
حالنا أننا نرى الموت كل يوم ولا نعرف كيف نستدركه وندفشه إلى الخلف. الموت الذي يخطف وجوهَ من نحب. يقتل المعذبين والفقراء والمنسيين والمبدعين من أبناء جلدتنا ممن تقتلهم بلادنا مراراً وتمعسهم بنارها وقسوتها وظلال أنظمتها الأبوية والسلطوية

المقاومة بالسينما

استطاعت صعب عبر "المقاومة الثقافية" أن تمهد لسينما رديفة هدفها حق الإنسان وفهمه. هذا الطريق الذي سلكته كالراحلين من بلدها مارون بغدادي وجان شمعون ورندا الشهال، جاءت إليه من عالم الصحافة كمراسلة حروب. وخطت بعيداً عن عائلتها البرجوازية اشتغالاً، يستعير وجوده من الشغب. ويستمد حيويته من السفر رغم المخاطر عبر الريبورتاجات والتصوير والتسجيل والتوثيق، وصولاً إلى الإخراج السينمائي لأفلام روائية وقصيرة دفعت هذا الجنون والتثوير اللذين يختلجان عقل وقلب جوسلين في سبيل التعبير عن نفسه، أولاً وعن الآخرين، كامتداد لها ولتجربتها الإنسانية.

والبداية كانت مع اندلاع الحرب اللبنانية، حين عادت جوسلين إلى لبنان. في وقت كان الجميع يفر من النيران اختارت مدينة تتصارع مع الدم كي تسجل فيلمها "لبنان في الدوامة" (1975). واحد من الأفلام التي لا يمكن تجاوزها في قراءة ما حدث من هول الحروب الملبننة. سجلت مقابلات مع كمال جنبلاط وفاروق المقدم وعبد المجيد الرفاعي وسمير فرنجية وفواز طرابلسي. ثم عملت على فيلمها "رسالة من بيروت" (1978) الذي ينبش في ذاتيتها، كأن التوثيق شخصي قبل أن يخطو إلى العام، بعد 3 سنوات من الحرب في رحلة عبر باص يتجوّل في بيروت. لتنتقل بعدها إلى فيلم "غزل البنات" الذي يحاكي قصة حب بين سمر وكريم وسط هزائم الحرب وصعوبات العيش في بلد التناقضات. ثم "حياة معلقة" و"شو عم بصير".

ومن دراستها في الاقتصاد عام 1970، بدأت العمل في التلفزيون. اشتغلت مراسلة حربية في مصر وجنوب لبنان، ثم ذهبت إلى ليبيا في العام 1971، قدّمت تقارير عن حرب أكتوبر1973  ثم عملت عام 1975 لحساب التلفزيون الفرنسي. وكل هذا جهّزها لتكون مخرجة منتفضة. تعرف الجراح وتحاكيها، وتنطق بشهادات الآخرين المهمشين.

في فيلمها "كان يا ما كان بيروت" (1995) تستعيد بيروت. مجالها الأوّل والنهائي، كأن كل ما تختزنه جوسلين يصعب أن يكون مداره خارج هذه المدينة. فضاء خاص بينهما، تحاكيان فيه الموت والحب والعيش. وفي هذا الفيلم تحاول البطلتان محاكاة هذه المدينة الخارجة من الأنقاض ولا تزال الحرب تغطي بغبارها الأسود أبنيتها وعيون الناس فيها وشوارعها الخائفة.

أما فيلمها الروائي الأكثر جدلاً فهو "دنيا" (2005)، الذي مثلت فيه حنان ترك ومحمد منير، وحاز جوائز من مهرجانات عالمية. وفيه تحاول جوسلين عرض حكاية طالبة آداب في القاهرة تجد في الرقص ملهاتها وأجوبة عن أسئلتها وتيّها الذاتي، عدا سير النساء وأوجاعهن، تلك القضية التي أرادت صعب، إلى آخر لحظة في حياتها أن تكون قضيتها.

الموت يخطف، لكن لا آحد يمكنه خطف هذه التركة الثمينة، ولو بعد أجيال سنتذكرها. وداعاً جوسلين أيتها المقاوِمَة الأخيرة أمام الأهوال والبشاعة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image