من الحين للآخر يطل علينا أحد كبار مشايخ الأزهر الشريف في مصر بفتوى أو تصريح وربما أحيانًا مناظرة تتداول ما يُدعى بمواجهة الفكر الإلحادي، وأيّ مُتابع لمثل تلك النقاشات حول وجود إله أو عدم وجوده أو عدم التأكد من وجوده وأنه لو وُجد بالفعل فيستحيل أن يكون هو نفس الإله الذي يتحدث عنه المسلمون والمسيحيون واليهود مثلًا، سيعرف بسهولة أن تفسيرات مشايخ الأزهر لا تتعدى تلك النظرة السطحيّة من الشارع العادي غير المهتم بذلك المعترك.
أتذكر أنني أثناء قراءتي لأحد كتابات الدكتور مصطفى محمود وجدته هو الآخر يتحدث بسطحيّة شديدة عن الفكر الإلحادي، حينها كنت أبحث عن ردود قويّة أستطيع بها إنهاء النقاشات التي كنت أخوضها ضد بعض الملحدين. ولأنني كنت بالفعل قد خضت أكثر من نقاش، فلم أجد في ما كتب مصطفى محمود أيّ علاقة وثيقة مع الفكر الإلحادي، ربما لامس الأمر من الخارج فقط، ولكنه بالتأكيد لا يمكن أخذ ما كتب على أنه نموذج الحُجة الناجحة ضد من يُنكر وجود خالق ما، ولكن في النهاية هو مجرد مُفكّر حاول على قدر ما يستطيع، خاصة أنه لم يتلقَّ ما يسمى في مصر بعلم مقارنة الأديان أو صد الفكر الإلحادي، وكلا المسميين سنجدهما حينما نطأ مؤسسة الأزهر، أو هكذا قيل.. حتى تغيّرت نظرتي إلى حرفيّة المؤسسة العريقة في إتمام المهمّة أو حتى البدء فيها حينما استمعت إلى علي جمعة الذي نسب للملحدين الإيمان بالله وخالد الجندي الذي أكد ما قاله علي جمعة مُعلناً أن الملحدين لا ينكرون الإله، ولكنهم يتخذون منه موقف "الزعل"، ومن قبلهم الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي لم تلمس خطاباته أي وترٍ حساس في القضية، على عكس ما وصل إلى مريديه.
"البعرة تدلّ على البعير"
في مقطع فيديو شهير ظنّ به أتباع الشيخ محمد متولي الشعراوي أنه قد قهر الملحدين أو وقف ضد مدّ تيار إنكار وجود خالق للكون، اختار الشعراوي المقولة الأسهل في ذلك الصدد وهي "البعرة تدلّ على البعير"، وهنا يُجيب أحمد بيك، أحد مشرفي مجموعة" فكر حر التنويرية" وعضو نشط في مجموعة "عقول مستيقظة الإلحادية" الشهيرة: "من شدة جهل الأزهريّين بموضوع اللادينيّة قد يطرأ على البال أنهم مدلسون، ولكني أرى أن الأزهر يفتقر للخبرة في مواجهة الملحدين، ومثال على ذلك هو الشعراوي الذي استدل بكلام عفى عليه الزمن حينما استخدم مصطلح (البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير فسماء ذات بروج إلخ... ألّا يدل ذلك على العليم الخبير)، ومن وجهة نظر المتعمقين في تلك المجادلات فهذا الكلام لا يزيد على الحوار في شيء".
ويُكمل بيك: "الشعراوي استدل أيضًا بقول أن الأشياء لا يمكن أن تأتي لوحدها ناسيًا بذلك الرد المعتاد (ومن خلق الله) وهو ما كان يجب نقاشه لأنه بطريقة التفكير السابقة يستغبي اللادينيين مع أنه لا يفرق بين النسبية والكمومية التي لا تتبع نفس القوانين التي من المفترض أن على أثرها يبنى النقاش".
الأزهر والرقص على الحبال
"نرى في أمثلة أخرى مثل حين سأل أحد مشايخ الأزهر الملحد المصري أحمد حرقان عن مصدر الحبّ، مع أنه معلوم أنه الأوكسيتوسين، فإن كان هذا أساس بناء حجة فالبعض يعرف جوابها"، هكذا يُعرّف أحمد بيك ما لم يجد مُناظر "حرقان" تعريفًا له وهو الحب، ويتابع: "وقد يُفهم من ذلك قلة حرفية الأزهريين في مناظرة الأفكار الإلحادية خاصة في حضور العلم، ولكن مواقف أخرى للعب على أكثر من حبل قد تُعطينا انطباعًا عن استغلال الأزهريين لمعرفة الشارع بتلك الأفكار عن ظهر قلب، ومن ثم التلاعب على العواطف وتغيير الأقوال مثل الموقف الشهير لشيخ الأزهر أحمد الطيب إذ قال بعدم وجود حد ردة إلا حينما يعادي الناس أهل الدين، وقال هذا الكلام في ألمانيا أمام لجنة كنوع من التقية قاصداً نسيان الناسخ والمنسوخ، ولكنه على النقيض في أحد حوارته في مقابلة لإحدى القنوات العربية، أكّد وجوب حد الردة ووافق عليه، وهنا نرى أن الأزهر في بعض الأحيان لا يصدق مع نفسه أو ربما يعرف أن الخطاب يجب أن يتغير حسب تغير جنسية المستمعين".
هل يؤمن الملحدون بالله كما أدّعى الأزهريون؟
يُجيب أحمد بيك عن هذا السؤال بثقة: "بعض مشايخ الأزهر لم يفهموا معنى الإلحاد، فجاء منهم مثل الشيخ علي جمعة إلى قول أن الإلحاد درجات وهناك ملحدون يؤمنون بالله، والإلحاد الأسود أفظعها درجة وهم لا يؤمنون بالله، وبداية أوّد تسجيل اعتراضي على استخدام اللون الأسود للتنفير لأن ذلك النهج هو عنصريّة وتنمّر يرفضه المجتمع الحديث ضد المنتسبين للون الأسود من ناحية لون البشرة، لكن على كل حال فهنا يُخطئ الشيخ علي جمعة لأن الإلحاد ليس فيه درجات، ولكنه هو درجة وجزء من اللادينية التي أيضًا تشمل اللاأدرية والربوبية واللاكتراثية ووحدة الوجود، أما عن التعريف القديم للإلحاد هو إنكار مطلقيّة الإله أو القرآن ورفض بعض الأشياء مثل الحدود أو جهنم أو إحدى صفات الإله، كما يستخدم بعض الأزهريين ومنهم الشيخ علي جمعة الآية: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}، فهذا التعريف خاطئ بمقايس اليوم، لأن الأولى الحديث عن الإلحاد كجزء مما كان يسمى بالدهريين الذين يقولون حسب القرآن: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا}، وأيضًا {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْر}ُ.
المشكلة هنا ليست أن ينتصر الأزهر أو أن ينتصر الإلحاد أبدًا، ولكنها في مدى احترام المؤسسة لمستمعيها في المقام الأوّل، فسواء كان الأزهر لا يعرف حقيقة الإلحاد ولا يستطيع التفريق بين الربوبية والإلحاد مثلًا، أو كان يعرف الفروق ولكنه غير حريص على نقل المعلومة الصحيحة، فكيف نتوقع مدّ جسر تنويري ضروري في وقت قريب؟
هل المؤسسة المنوط بها تغذية ذلك الفكر التسامحي المتقبّل للأقليات في مصر على قدر تلك المسؤولية من الأساس؟ كيف ستبدأ في خلق بيئة غير عنيفة لدولة سلطة القانون لا المجتمع في التوفيق بين طرفين لا تعرف أحدهما حق المعرفة؟
مدى تأثير فهم الأزهر الخاطئ أو المسيّس على المحيط العربي
هذا إذا افترضنا حسن النية وقلة المعلومات التي تملكها تلك النماذج الأزهرية الأشهر على الساحة، أما إذا وضعنا في الحسبان تغيير وتبديل لهجة ومفردات الخطاب في وصف وضع وحال ومصير اللادينيين في مصر كما حدث مع شيخ الأزهر شخصيًا بين الإعلام الذي سيصل حتمًا إلى جموع المصريين وبين الإعلام الذي سيصل إلى فئة لا تُذكر، فمن الواجب تحذير القائمين على ملف تجديد الخطاب الديني أن الأزهر قد لا يكون طرفًا فعّالًا، إلّا في حالة أن يكون المطلوب غسل ماء الوجه خارجيًا فقط، أما داخليًا فيبقى الوضع على ما هو عليه إلى حين إشعار آخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...