شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
في مديح النهايات... لأننا نعيش مرّة واحدة!

في مديح النهايات... لأننا نعيش مرّة واحدة!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 31 ديسمبر 201806:27 م
أرى نفسي بأني أمنح قلمي مسار الكتابة عن ”البدايات“ عادة، حيث تلك المربوطة بالأمل دومًا. وأقول بأني أحمل من البدايات اسمي؛ رشا، وأصله الرشاء، هو اسم علم مؤنث عربي يعني الظبي إذا قوي وتحرّك ومشي مع أمّه، أي ابن/ ة الغزال عندما يمشي/ تمشي خطواته/ا الأولى. ولذلك، أشعر أن ”لعنة“ اسمي إيجابية، مع أن ما جعل والديّ يختارا هذا الاسم هي أغنية ”حبيبة بابا رشا“ للمغني المصري محمد ثروت والتي صدرت بداية ثمانينات القرن الماضي أكثر من معناه، هذه الأغنية التي أثمرت على أن نكون سبع فتيات يحملن الاسم "رشا" في الصّف الواحد بمدرسة "الأمل" في عكّا. المهم، لن أكتب عن البدايات في هذا النص، بل سأخصصه للنهايات. فاختياري لهذه الثيمة نابع بالطبع من توقيت نهاية العامّ، وما نؤمن به، أو ندعي ذلك، بأن نهاية العامّ سوف تأتي ببدايات جديدة وأفضل. ونحن نريد أن نواصل الإيمان بذلك، صحّ؟ غالبيتنا يهرب من مواجهة النهايات بمعظمها، نخافها، خاصة تلك المرتبطة بالفقدان، فقدان البشر تحديدًا، سواء  انقطعت أو قُطعت علاقتنا بهم/ن، أو رحلوا عن هذا العالم بسبب الموت، و”الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء“، كما قال محمود درويش. لكن لماذا نخاف مواجهة النهاية؟ ولماذا نادر ما يدرّبنا أحد، أوندرّب أنفسنا، على التعامل مع النهاية؟ تلك التي علينا أن نعيشها، وليس نهايتنا، التي لا نعرف ما يحدث لنا من بعدها.. ولا أريد أن أخوض هُنا بما يعرفه كلنا عن تفسيرات ”المجهول“، والنصوص التي كُتبت عنه لأسباب عديدة، منها تلك التي كُتبت لأسباب فرض السلطة على حياة البشر اليوم/ الحاضر، والاتكال على أن النهاية قادمة لا محال، فلماذا علينا التفكير بها؟ فقدتُ والدي قبل أربع سنوات وقليل بعد صراعه مع مرض السرطان. في أيامه الأخيرة، عرفت أن النهاية (أي موته) قريبة. وعليّ أن أدرّب نفسي على الفكرة، أن أعتاد عليها. لم يكن موته مفاجئًا، مع أن الحقيقة دومًا مفاجئة. ”فالنهايات لن تحدث لنا“، نقول لأنفسنا. تمامًا، كما أننا مقتنعين بأننا لن نصاب بالأمراض ولن يحدث لنا مكروه. هذا الخوف من النهاية وعدم استعيابها كحقيقة، لها أبعادها على الروح وحيواتنا، لن تخفف من وطأتها. كانت فكرة موت أبي، أكبر من حقيقة موته، بمعنى، كان الخوف من الفكرة أكبر مما فرضته حقيقة الموت على نفسي وحياتي. كان عليّ أن أعيش من بعد هذه الحقيقة لأيام كثيرة أهرب من مواجهة الموت، الذي أصبح ابن بيتٍ، ينام على كنبة أبي، ويعيش في كل لحظة حزن مررت بها: ”ليش زعلانة يا رشا؟ ما عندك حزن كبير بحياتك!“. تجاهلت أحزان كثيرة بعدها، أو للأدق، لم أتعامل مع نهايات عديدة بعد موته، نهايات علّها تكون تافهة اليوم، لكنها أحزنتني كثيرًا عندها. مع الوقت، أتعني تراكم تجاهل الأحزان/ النهايات التي تلّت وفاة والدي، وأصبحت كالجثث في قلبي التي لم أعرف كيف تُدفن.. وفي أي مقبرة؟ ومع أي جثّة منها يجب أن أبدأ؟ منذ رحيل والدي، أحبّ الالتقاء بأصدقاء وصديقات فقدوا/فقدن والدهم/ن. أشعر أن فقدان عزيز، وليس بالضرورة أن يكون أبًا أو حتّى أحد أفراد العائلة، يضيف طبقة مختلفة بالنفس للتعامل مع أحزان الحياة، وهي كثيرة. هذا الفقدان، لا يجعلني أو يجعل أصدقائي أكثر خبرة بالتعامل مع الأحزان، كلا، وبالتأكيد أكره”منافسة الأحزان والمآسي“، لكني وجدت من خلال محادثاتي معهم/ن، بأنهم يشبهون كوني على الأقل أعرف، مع وصولي إلى كل مفترق نهاية ما - خاصّة نهايات في هذه الدنيا التي أعيشها- أمنح لقلبي مساحته للحزن وللشعور بالفقدان، لكنه إن مدّ رجليه (أي الحزن) لأوسع من السرير، ذكّرته، أو ذكّرت نفسي، بحزن الموت، وانطلقت من بعد هذا التذكير من جديد للحياة. أكان الموت تدريبًا جيدًا على النهاية؟  علّمتني هذه النهاية الكثير عن الحياة، عن نفسي وعن الوقت. أكّدت لي أن التسامح بأنواعه، هبة قابلة للاكتساب والتطوير، وأن لا من نهاية أخرى، أو لا من فقدان لا يُخَفَفْ، مثل فقدان الموت.عندما انفصلت عن حبيبٍ قديم، حاولت أن أفسر له بأننا لا نفترق هُنا، لكننا نحاول أن نحمل شكل علاقتنا لمرحلة أخرى، غير تلك التي عرفناها. إن أراد كلانا طبعًا. ولطالما أن احتمال الحضن متوفّرًا، أو أن نسمع أغنية سوية بجانب بعضنا البعض، لنفرح إذن. ولذلك، كان الموت مفيدًا لتعامل مع خيبات الحبّ الكثيرة!
غالبيتنا يهرب من مواجهة النهايات، نخافها، خاصة تلك المرتبطة بالفقدان، فقدان البشر تحديدًا، سواء  انقطعت أو قُطعت علاقتنا بهم/ن، أو رحلوا عن هذا العالم بسبب الموت بأشكاله المتنوعة. لكن لماذا نخاف مواجهة النهاية؟
عندما انفصلت عن حبيبٍ قديم، حاولت أن أفسر له بأننا لا نفترق هُنا، لكننا نحاول أن نحمل شكل علاقتنا لمرحلة أخرى، غير تلك التي عرفناها. ولطالما أن احتمال الحضن متوفّرًا، لنفرح إذن!
على الرغم من اختلاف ثقل كل نهاية على حيواتنا، وعلى الرغم من أن هنالك نهايات ننساها وتلك تواصل بلورةتفاصيل في شخوصنا ومسارات حيواتنا كل يوم، إلّا أنها تحمل معها - حتّى لو بعد حين - سلامًا.
أحاول أن أعامل نهاية العامّ مثل نهاية كلّ يوم. على أن الوقت مسارًا مستمرًا، له دومًا بدايات ونهايات. أحاول كل يوم، أن أعطي للنهايات بساطتها وحقّها، أن أخفف عنها لؤم التاريخ وما صُبّ عليها من لعنات. كيف يمكن أن نبحث عن ”نهايات سعيدة“ في كلّ فيلم أو قصّة ولا نحاول تطبيق الفكرة على حيواتنا؟ على الأقل أن نطبق أشياء حلوة! النهاية ربما تكون بسيطة مثل أن ننظر من زاوية أخرى للشباك على حديقة البيت، سنرى تفاصيل أخرى منها، غير تلك التي هربنا منها. أحاول أن أعامل نهاية العامّ مثل نهاية كل يوم، بأن أخفف الأثقال عن قلبي، أثقال هو وأنا بغنى عنها، وأن أقول ما أريد قوله قبل أن تأتي نهاية جديدة. لا أكتب هذا النص لأمدح البدايات. فنحن نفعل هكذا كل يوم لنخفف عن أنفسنا، ولأنها تستحق المدح أيضًا. لكني أكتب هذا النص لأمدح النهايات، تلك التي تُفرض علينا - ولا تقتلنا - وخاصّة تلك التي نختارها، كلاهما، وعلى الرغم من اختلاف ثقل كل نهاية نعيشها على حيواتنا، وعلى الرغم من أن هنالك نهايات ننساها وتلك تواصل بلورة تفاصيل في شخوصنا ومسارات حيواتنا كل يوم، إلّا أنها تحمل معها - حتّى لو بعد حين - سلامًا ما.. هذا السلام، خطوة الشجاعة الأولى نحو إبحار جديد في البدايات، مع الإدراك الكامل للخوف من النهايات، وشرعية ذلك. فنحن على الأقل نعرف، حتّى الآن، بأننا نعيش مرّة واحدة.  

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image