اشتهرت الكباريهات في مصر خلال القرن الماضي. هي فضاءات شهدت ولادة فنانين كثر أصبحوا نجوم الفن المصري، كما كانت عنواناً أساسياً للفرح والمرح والفن الشعبي الجميل. سلطانة الطرب منيرة المهدية كانت تغني في إحدى تلك الكباريهات، إلى أن أسست ملهاها الخاص "نزهة النفوس" في أوائل القرن الماضي.
من أشهر الكباريهات التي عرفتها القاهرة "كباريه بديعه مصابني". مصابني ممثلة ومغنية وراقصة من أصل لبناني - سوري، هاجرت إلى مصر مع والدتها حيث افتتحت الكباريه في عام ١٩٢٩.
احتل "كباريه بديعة مصابني" سريعاً مركزاً مهماً في القاهرة، وأصبح مقصداً لأهم الشخصيات، ولم يكن الملك فاروق وأسرته سوى أحد الزوار الدائمين. كان يقدم أهم العروض الاستعراضية من غناء ورقص، ليتخرج منه كل من تحية كاريويكا وسامية جمال وفريد الأطرش ومحمد عبد المطلب ومحمد فوزي ومحمود شكوكو وغيرهم الكثير. ثم استلمت إدارة الكباريه الممثلة والراقصة ببا عز الدين وحولت إسمه إلى "كباريه شهرزاد"، ومن بعدها استلمته فتحية محمود، ثم زوجها. تواصل العمل فيه حتى الثمانينيات، ليشهد ولادة جيل جديد مثل سهير زكي وفيفي عبده وأحمد عدوية. بالمقابل، ظهرت العديد من الكباريهات، وانتشر الجديد منها في شارع الهرم، ولكنها اليوم ولأسباب عديدة لم تعد تحتل المكانة ذاتها.
أما في بيروت، في شارع الحمرا، وتحديداً تحت الأرض بطابقين، فقد ظهر منذ حوالي سنة كباريه جديد يدعى "مترو المدينة". ليس لمدينة بيروت قطار يتنقل ما بين محطة جغرافية وأخرى، لكن هناك مترو ينقل جمهوره من محطة فنية إلى أخرى. إنه فضاء يستقبل زواره بحانة اتخذت من هندسة مقصورة القطار شكلاً لها، وفي نهايتها، نرى باباً يؤدي إلى مسرح صغير يتسع لحوالي مئة كرسي مع طاولاتهم، موزعة على مدرج من ثلاثة مستويات. اللون الأحمر المخملي يضيء أجواء المسرح، وتتمايل الستارة ما بين الأخضر والذهبي.
اليوم وبعد مرور حوالي سنة على افتتاح مترو المدينة، أصبح فضاء يعجّ ليلياً بجمهور متنوع، وبرمَجَة غنية جداً. ترتكز برمجة المترو على عروض الكباريه التي اتخذت أسماء عديدة مثل "عالم التفنيص" و"العميل الملتهب والراقصة المزدوجة".
تعتمد تلك العروض على تقديم لوحات فنية، من غناء وعزف ورقص حتى السحر، يؤديها فنانون شباب، هواة ومحترفون. يربط اللوحات عريف الحفل روبرتو القبرصلي، وهي شخصية اختلقها ويؤديها بنفسه المدير الفني لمترو المدينة هشام جابر، الممثل والمخرج اللبناني. هي شخصية تستقبل الجمهور وتربط اللوحات الفنية عبر مشاهد من الستاند أب كوميدي، مرددة دائماً أبداً مذهب الكباريه: "بمترو المدينة تَعا فرفرش وسَلّينا، تعا فرفش تعا طقّش كاسات وملينا". ذلك النوع من العروض الذي يجمع الذوق الرفيع، والموسيقى الشعبية الجيدة، والاحتراف الفني بالفرح والمرح، كان هدف الفريق المشرف على مترو المدينة. تقديم عروض يقصدها الجمهور من مختلف الطبقات الاجتماعية للاستمتاع بوقته وتذوق فن جميل والتعرف على مواهب جديدة.
في أحد العروض الذي ما زال مستمراً على خشبة مترو المدينة، "هشّك بشّك شو"، تم اختيار حوالي 20 أغنية تعود إلى الفترة ما بين عشرينيات وسبعينيات القرن الماضي. أغنيات من التراث الشعبي المصري المتنوع لزكريا أحمد وعزيزة المصرية وسيد درويش وليلى نظمي و شاديا وسعاد حسني. فرقة موسيقية تعزف الموسيقى الحية على المسرح، مع مغنين، وراقصة، و"الواد بتاع الفرقة".
يقدم "هشك بشك شو" تحية إلى زمن الكباريه المصري، والفن الشعبي ضمن سياقات وديكورات متنوعة من الكباريه إلى الصعيد، مع ثيابها وأكسواراتها وفيديوات في الخلفية. إلى جانب تلك العروض، لا تتوقف السهرات الفنية في المترو، إذ يستقبل وينظم دائماً حفلات للفنانين الشباب العرب والأجانب ومن جميع الأنواع الموسيقية، لاسيما البديلة منها.
كما يقدم "شرقي حاف" عروضاً تعيد التوكيد على جمالية الرقص الشرقي والاستمتاع به مع راقصين محترفين وهواة، نساء ورجال. كما لجمهور المترو موعد ثابت مع عرض الأفلام، وكذلك لعشاق الفوتبول مباراة تعرض على شاشة كبيرة، بالإضافة إلى سهرات قراءات نصوص روائية وشعرية. و"مترو بازار" يفتح أبوابه من فترة إلى أخرى للجميع لشراء وبيع الأغراض المستعملة. دون أن ننسى العروض المسرحية والنشاطات والمهرجانات الفنية المختلفة التي تتوزع على فضاءات بيروت. سهرات وفعاليات فنية وثقافية وترفيهية لا حدود لها في مترو المدينة أصبحت جزءاً أساسياً من الروزنامة الثقافية لمدينة بيروت، استطاع عبرها المترو في فترة وجيزة أن يثبت له مكانة خاصة. كذلك سدّ ثغرة غياب هكذا فضاءات تؤمن فناً محترفاً من الشعبي إلى البديل ضمن سياق وإطار ترفيهي.
قد لا يستطيع مترو المدينة بسهولة إيصال مواهب جديدة إلى الشهرة التي نالها الفنانون في كباريه بديعة مصابني، وذلك لأن حيتان الإنتاج الفني تسيطر على السوق الفنية في العالم العربي اليوم، ولكنه بالتأكيد يلعب دوراً مهماً جداً في تأمين مساحة تواصل خلاقة وممتعة، ما بين الجمهور والمواهب الجديدة أو الفنانين المستقلين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...