شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
محمّد وهبة... طفل فلسطينيّ سيُنسى اسمه قريبًا

محمّد وهبة... طفل فلسطينيّ سيُنسى اسمه قريبًا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 21 ديسمبر 201810:48 ص

لا أعلم لمَ احتلّت صورة الطفل "إيلان" -وجسده المثقل بالمياه على أحد شواطىء تركيا- عقلي حين قرأت خبر وفاة محمد وهبة. قد تختلف الظروف ولربّما الجنسيات وبلد الموت المفترس ولكنّ كليهما ستمحوه ذاكرتنا قريبًا وكلّ ما سيبقى عالقًا هو: "لاجىء آخر قد مات".

ربّما شاءت المصادفة أن يربّى محمّد في كنف عائلة فلسطينية في لبنان، في مخيّم للاجئين تحديدًا هو نهر البارد المدمّر. ولربّما الأقدار لعبت دورها أن يكون والداه بسيطَي الحال، لا يمتلكان أراضي ولا أي شيء تمنحه جنسيّة فخريّة برؤوس المال، ولا يتزوّدان في وقت الشدّة وعصف الأمراض بتأمين صحيّ أو ضمان اجتماعي يقيهما السؤال الفاصل والقاتل على أبواب المستشفيات. ولربّما شاءت الحياة بكلّ عبثيّتها أن يحمل منذ نعومة أظافره عبء المرض وأوجاعه حملاً إضافياً على كاهله. ولكنّ "محمد" ابن الأعوام الثلاثة لم يتوفّ بسبب الإهمال.

نعم، أرفض بشدّة هذا التعبير وأمقته، وعساني أقول هذا الكلام للمرة الأولى. "محمد" متهّم منذ ولادته بوصمة الجنسية، بوصمة اللاجىء الذي تقبض الحكومات المتعاقبة والمنظمات على عرقه ودمه أموالاً طائلة تغطي تكاليف مؤسسات تعليمية وصحيّة وخدماتيّة بأكملها. ابن اللجوء هذا الذي لم يختر يومًا موطنَ ولادته، قرّرنا نحن ألاّ نهبه الحياة شأنه شأن الكثيرين، لأنّه لا يستحقها.

قد يكون هذا الخطاب صادمًا، فهنا في لبنان، بلد المؤسسات القابضة، والعهد الذي يقوى على شعبه، يعيش النظام منذ الأزل أزمة حقيقية تجاه الفقراء، يعلّبهم ويضع على كلّ منهم ملصقًا يحدّد تصنيفه وأولويته للمجتمع. وهنا مئات الآلاف من الفلسطينييّن المنهكين من قوانين مجحفة وظالمة في حقّهم بالقوت والتعليم والصحّة والعمل وهم يقبعون في أسفل الهرم ينتظرون قرارًا من سفارة بالهجرة أو موتاً محتّماً في السجون بين الإرهاب والتعاطي.

لست بصدد المحاججة في الأسباب التي أدّت إلى الوفاة، ولا في الاستماتة من الأطراف السياسية اللبنانية والفلسطينية في تبرير الموقف وإيضاح الأحداث.  فلكلّ من تلك الأطراف أهدافها في شنّ الحرب على الآخر، ولكلّ منها ورقة توت تسقطها حين تريد. العبرة في النهاية هي الموت، عدد أقلّ، أعباء أقلّ، وأموال أكثر تسحب الى الجيوب.

"محمد" ولد فلسطينيّاً، وشيّع في مثواه الأخير في مخيّم لجوء، شمال لبنان. وما بين هاتين المرحلتين، صراع لم يقم به هو فقط بل كلّ من عاش حاله، ووجد نفسه حبيسًا لهذه العلبة السردينية التي تسمّى لبنان. لبنان الذي يمنع المرأة من إعطاء جنسيّتها لأطفالها خوفًا على ديمغرافية البلد، وتغيير شكله ومنعًا للخطب "العميلة" الداعية للتوطين والتجنيس. لبنان الذي يتشدّق بالتزامه بالقضية الفلسطينية عند كلّ صياح حرب، يجد في كلّ ركنٍ خطابًا يمينيًا ضد الغريب، الآخر، الذي احتلّ بلاده وامتصّ مقدّراتها. في هذا الوطن "البديل" ليس العيب في الموت، العيب يكمن في الحياة الممنوعة، والسقف الواطي تحت حجّة حسن الاستقبال والضيافة على مرّ زمن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

والعيب الأكبر يكمن هناك في كلّ تلك الزوايا التي أُنشئت فيها جمعية أو منظمة تدفعها سياسات الدول الخارجية لتحديد أولويتها وتحييد عملها عمّا هو محقّ. فلكلّ قضيّة زمن، ولكن زمن سعر، والفلسطينيون باتوا اليوم كالمنسيّين في جيوب الحروب الأخرى التي تدرّ علينا أموالًا، نوظّف بها كوادرنا، ننشىء بها مشاريعنا، وندعو على اللاجئين بالموت إن لم يكن من البرد فمن خراب إداريّ وفساد حكوميّ يجعل من أهاليهم أذلاء للورقة الخضراء.

محم متهّم منذ ولادته بوصمة الجنسية، بوصمة اللاجىء الذي تقبض الحكومات المتعاقبة والمنظمات على عرقه ودمه أموالاً طائلة تغطي تكاليف مؤسسات تعليمية وصحيّة وخدماتيّة بأكملها.
وفي لبنان، مئات الآلاف من الفلسطينييّن المنهكين من قوانين مجحفة وظالمة في حقّهم بالقوت والتعليم والصحّة والعمل وهم يقبعون في أسفل الهرم ينتظرون قرارًا من سفارة بالهجرة أو موتاً محتّماً في السجون بين الإرهاب والتعاطي.
أكثر ما آلمني في موت محمد، ليس قلّة الحيلة التي صيغت غضبًا في الشارع  في أرجاء المخيّم ولا صراخ الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، بل تعبير جدّته الموجع بفقدان حفيدها "نحنا الفلسطينيّين مغضوب علينا".

أكثر ما آلمني في موت محمد، ليس قلّة الحيلة التي صيغت غضبًا في الشارع  في أرجاء المخيّم ولا صراخ الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي الذين أطلقوا النداء لاسم محمد وهبة بهاشتاغ، بل تعبير جدّته الموجع بفقدان حفيدها "نحنا الفلسطينيّين مغضوب علينا".

يا ليتنا نستطيع تضميد وجعك يا حجّة، ولكن لستم أنتم الفلسطينيّون المغضوب عليكم، أنتم الفقراء منهم، مثلنا مغضوب عليكم، أنتم ضحيّتنا أيضًا، ضحيّة أقلام اقتراعنا، مجلس نوّابنا، وزرائنا الفاسدين الذين لم يحاسبوا على جرائم كثيرة ارتكبوها، آخرها فضيحة أدوية السرطان الفاسدة. أنتم ضحيّة أولئك الذين يمثّلون عليكم، فيسكنون في سفارة دولة عدوة يحكمها احتلال. نعتذر منك ومن والدة ووالد محمّد، لأنّ الفقر قاتل في بلادنا، والغربة موجعة والرحيل عن كلّ هذا لا يكون إلاّ بتغيير جذريّ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image