اعتقدتُ أنني أملكُ قلباً كصندوق خشبي صغير أحملهُ أينما مشيت، أتعبُ فأتكئ عليه، أخاف فأتكور داخله، أبكي فأطمئن أن الوقت لم يقدر على قتل العطر المختبئ داخله، كلما حاولت النوم أضعه بجانبي، أدع الأحلامَ تتسللُ إليه وتسكنه، بعيداً عن كل شيء، أُغلق الباب وأقلعُ عن وجهي قناعاً خانقاً أرتديه طوال الوقت، أحاول به طمر هشاشة حقيقية كرائحة العطر المختبئة تلك، كوضوحها وقوتها، أُصير حقيقياً هكذا فقط، استطيع العيشَ، التنفس، الحلم، أن أسمع صوت الأرض كالرقص أو رجفةَ حُب، بين هذه الجدران، في غرفة الملاذات العديمة الجدوى هذه، في كهفي، غرفة ضخمة تتسع لكل أشكال الأحلام والهواجس، صرت فيها كسجين يتصبب عرقاً وخوفاً من أن يختفي أمله بالهرب، أسند ظهري إلى الجدار كمحارب انتهى لتوه من خوض معركة حقيقية لم يذهب ضحيتها سوى القليل من التفاصيل، التقطُ ورقةً لأُحاول قول ما كنتُ أبكمَ في قوله، فأعوي، التقط الهواء كله كمحاولة لأخذ نفس، أبقى محدقاً في ذلك القناع أمامي على أنه شخص آخر، حي بجسدي وأسناني وعظامي نفسها، أبقى محدقاً أنتظره ليحكي لي كيف سيبقى حياً كقناع للوقت المتبقي له.
أمضيت الوقتَ مُمسكاً بالقناع، أُفكر فيما سيقوله، يبدو هشاً كمرآة. وحيدٌ فيِ غرفة حين يصيرُ للموتِ فيها شهيّةً عمياء كما الحُب، يصبح لديها ما يكفي من الليل ليبقى ليلاً، لديها ما يكفي لقتل الوقت، ولدي رائحة العطر التي تحيي الوقت كل مرة من جديد.
هكذا هو الأمرُ إذن، ذاكرة بأكملها كأنها فقط مُجردَ غرفة رثة، نفسُها بِشُبابيكها ونجماتها، للخوف فيها رائحةً تبقى، كما الحُب فيها أيضاً، فيها حرائقُ تنهشُ أوراقاً مشبعة بكلامٌ يكشرُ لي عن أنيابه، أُكشر أيضاً عن أنيابٍ أعرف أنها لن تقوى سوى على نتش عزلتها الصاخبة، أحرقُ كل شيء وأتفرج كيف تأكل النار هدوءاً كهدوء زبد الموج.
اعتقدتُ أنني أملكُ قلباً كصندوق خشبي صغير أحملهُ أينما مشيت، أتعبُ فأتكئ عليه، أخاف فأتكور داخله، أبكي فأطمئن أن الوقت لم يقدر على قتل العطر المختبئ داخله، كلما حاولت النوم أضعه بجانبي، أدع الأحلامَ تتسللُ إليه وتسكنه، بعيداً عن كل شيء.
انا ابنُ مدينةٍ لا تملك عنواناً صريحاً في ذاكرتي سوى كعُلبة سردين ضخمة طُردنا منها كما سنُطرد من غيرها، حاولت ألا تبقى صوتاً بعيداً أتناساه أو أتجنب سماعه، أحاولُ العيشَ غريباً عنها كبيروت.
لكنني وددت فعلاً العودة الى حُلُميَّ الأوّل في دمشق الذي سخِرَ الجميع منه، أودُّ الرجوعَ والعيشَ في منزلي ذي السقف القرميدي الذي رسمتهُ بجانبِ نهرٍ صغير وشجرة وجبلين خلفَهما، تحتَ شمسٍ تتوسط أعلى الورقة بغباء.
انا ابنُ مدينةٍ بائسة، عاشقٌ للبربريّة، للبريّةِ، عاشقٌ لهذا الجموح المُكبل، للنبض الهستيري، للخوف، لليأس، للبقاء حياً.
انا ابنُ مدينةٍ لا تملك عنواناً صريحاً في ذاكرتي سوى كعُلبة سردين ضخمة طُردنا منها كما سنُطرد من غيرها، حاولت ألا تبقى صوتاً بعيداً أتناساه أو أتجنب سماعه، أحاولُ العيشَ غريباً عنها كبيروت، كغُربائها، بيروت ومُغادريها، وحيدَتُنا، منفانا وعزلتنا، وِحدتُنا، لذا صرت غريباً حتى عن القناع ذاك إلا عنها.
لكنني وددت فعلاً العودة الى حُلُميَّ الأوّل في دمشق الذي سخِرَ الجميع منه، أودُّ الرجوعَ والعيشَ في منزلي ذي السقف القرميدي الذي رسمتهُ بجانبِ نهرٍ صغير وشجرة وجبلين خلفَهما، تحتَ شمسٍ تتوسط أعلى الورقة بغباء، أريد أن أعودَ لأمنية بأن أكون عاملَ نظافة، ليسَ لأجل أن أكون من الأخيار وأن أبتعد عن الأشرار وأحافظ على نظافة مدينتي... بل لِأقودَ سيارة القمامة الصغيرة ذات المقعد الواحد، التي وُظِفتْ حينها لِتجوبَ حاراتٍ ضيقة في المدينة، تلك الحارات التي تُسمى بحاراتِ الياسمين والجدران العتيقة والعبق...
انتظرتُ ظَهيرةَ كُلَّ يومٍ تلكَ السيارة الصغيرة أمام باب البيت لِتَمر، لعلَّ سائِقها يلاحظ وجوديَّ ويسمحُ لي بأن أصعدُ إلى السيارة وأُحقق حُلميَّ الأزلي آنذاك، يوماً بعدَ يوم أنتظرُ وأُمي وأبي يقفانِ ورائيَّ يضحكانِ على شغفي بتلكَ الآلة طوال الوقت، كل يوم، بعدَ انتظارٍ مُعتادٍ في يوم ما أتت أخيراً، قفزتُ ووقفتُ على عتبةِ باب البيت لأفسحَ المجال لها كي تمر، لكنها لم تفعل، بل وقفت أمامي! فُتِحَ الباب وسمح لي سائقها بالصعود، حققت ما كنتُ شغوفاً به أخيراً! شاهدت أمنيتي الممزوجة برائحة القمامة عن قرب، لكن ذلك أمر مذهل بالفعل، كيف تصبح كل الأحلام مستحيلة بعدها، كتشابه أوراق شجرتين في حوض واحد.
*
هذا بيت، لأجل كُل الأيام السخيفة هُناسيبقى حُلواً كمذاقِ قُبلةٍ اولى، أنهض كل يوم كأي بشريٍّ آخر في هذا الكوكب، سيجارة، إن بقي في كعب كأس البارحة شيء، أبدأ نهاراً جديداً، أنتظر من جديد أن يقول القناع كيف سيبقى حياً. هذا لأجل كُل الأشياء السخيفة التي استيقظتُ بها، لأجلِ كل الأشياء التي لم أغرق بها، التي لم أُحاول كفايةً، هذا لأجل غرق لم أفهمه، هذا لأجلِ كُل الوقت الذي لم أقضِه، ولنْ يقضيه القناع، لأجل كل الأحلام التي ما زالت معلقة على جدرانها حتى الآن، لأجل اختباء رائحة العطر حتى الآن، لأجلِ جمالٍ كبيروت، لبشاعتها، لطفل ثمل أضاع كل أمنياته.
..
لجناحيكَ مدى، إياكَ والبقاء فيه، إن كُنتَ ضعيفاً لتتسوّل سبباً للحلم والعيش إياك والبقاء حتى، نطق القناع بهذا أخيراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...