"ستكون فضفضة"، هكذا قلت لرشا ونحن نتحدث عن فكرة المقال وها أنا أقول لكم أنتم أيضاً أعزائي القراء بأنّها مُجرد فضفضة ساخرة وليست تحليلًا علميّاً وأي تشابه بين الشخصيات الموصوفة والواقع هو أمر مقصود.
قبل أن أفضفض عليّ أن أقدّم نفسي: أنا مواطنة تونسية بلغت العشرين عامًا سنة الثورة، شاركت قدر الإمكان فيها: تظاهرت وصرخت وكتبت وشاركت الصور والفيديوهات والأخبار وحللت و"نبّرتُ"1 والأهم والأجمل أني حلمت؛ حلمت بوطن تُصان فيه كرامتي وأجد فيه لقمتي وأتمتع فيه بحريّتي.
لم تكن الثورة أول عهدي بالشأن العام، فكوني ابنة لعائلة "إسلاميّة" مُسيّسة كانت السياسة جزءًا لا يتجزأ من حياتي. انخرطت في العمل الحزبي لسنتين ثمّ انسحبت مع الاغتيالات السياسيّة. عُدت إلى العمل الميداني مع الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014 ودعمت المُرّشح المقابل لمرّشح نظام بن علي. اعتقدت وقتها طبعًا أنّي أدعم مُرشح الثورة واتخذت من مقولة تميم البرغوثي "المُنصف خيمتنا الأخيرة" شعارًا أردده على مسامعي كلّ ما ساورتني الشكوك عن جدوى ما أفعله وجدوى الانتخابات في بلاد تحكمها مافيا المال والإعلام.
طبعًا، لم تُنصفنا الانتخابات ولا الثورة أساسًا...أدركتُ حينها بأنّ الحلّ ليس في الانتخابات وأنّه لا مناص من تغيير جذري. توالت في ذهني الأسئلة فحاولت أن أقرأ وأفهم ماذا نعني بالنظام الذي دعوت دومًا لإسقاطه، من هو النظام؟ من بناه ومن أعلاه ومن حماه ومن يحميه؟ أخذتني هذه الأسئلة إلى الإشكالية الأعقد في تونس الآن: الاقتصاد! من هنا تبدأ الحكاية... آه قبل أن تبدأ الحكاية عليّ أن أقول بأنّي وبُعيد تلك الانتخابات المشؤومة وقعت في حُبّ مناضل يساري شاب وتزوّجته...الآن باستطاعتنا أن نقول تبدأ الحكاية.
بداية، راقبتُ هذا العالم بتوّجس - وهو أمر طبيعي لابنة إسلاميين، فكانت كلمة اليسار في بيتنا مُقترنة بالانحلال الأخلاقي والتفسخ الهويّاتي.
ثُمّ بدأت الاقتراب من عالم اليسار "الجذري" الشبابي أو بالأحرى من بعض مجموعات اليسار الشبابي، فلا يُمكننا في تونس الآن وضع كلّ من يُسمي نفسه يساريًا تحت نفس الخانة: هم أنفسهم يرفضون أن يُجمعوا مع من يعتبرونهم إصلاحيين أو مُتطرفين من رفاقهم، فيعتبر "اللينيني"، مثلًا، وصفه ب "التروتسكي" انتقاصًا من جذريته، أمّا وإن وصفت "ماويًا" بالتحريفي فستقوم قيامتك! لذلك سأُحاولُ أن أُحدّدُ في كلّ مرة عن أي "نوع" أتحدث.
عن الجذريين
كانت أولى "المفاجآت" بالنسبة لي سعة ثقافة هؤلاء الناس ومدى اطلاعهم، فيتحدث الواحد منهم عن تجربة ما في بلد ما في سنوات خلت وكأنّه عاد للتو من هناك! يُحدثك الرفيق عن تجربة التعاضدية في النيبال وكأنّه نيبالي قح! ويناقش الآخر المادية الجدلية لماركس وكأنّه "إنجلز في زمانه" وتُحاضر الأخرى عن الثورة الثقافية الصينية فتظن لوهلة بأنّها تشن يودا. ستنهال عليك أيضًا العبارات يمينًا ويسارًا: إمبريالية على ماوية على لينينية على صراع طبقي على كمبرادور إلخ... ينتشي الواحد منهم وهو يصدح بهذه الكلمات وتشعر أنت بأنّك "همّام في أمستردام"!
لم أر انحلالًا أخلاقيًا، بل على العكس، رأيت أُناسًا رفيعي الخلق يتألمون لألم النّاس ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ولكن رغم حنانهم هذا ورغم حديثهم الدائم عن ضرورة الالتحام بالطبقات المُفقرة والفئات الشعبية، فهُم أناس منغلقون على أنفسهم، بعيدون عن مشاغل الناس اليومية، يتبارزون بالنظريات فيما بينهم مُحاولين إثبات من فيهم الفرقة الناجية. هذا علاوة على حرب الاستنزاف التي يخوضونها ضد الإسلاميين. فبينما يقطع النظام شراييننا ينشغل الرفاق بنزاعاتهم الضيقة. يستفيقون حين يهزّهم الشارع بهزّاته ويضعهم أمام الأمر الواقع. يكونون أول المُلتحقين بالرّكب وأخْلَص من فيه، ويتساءلون في خضمّه "ما العمل" وللأسف لا يُنجدهم لينين بشيء هنا. فغالبًا يكون قد حُصّل ما في الصّدور!
هُناك كذلك ولع بتحديد المفاهيم وبإشكالية التعريف لدى الرّفاق وتندرج هذه الهواية ضمن حرب النظريات طويلة الأمد، فيحرصون أشدّ الحرص على انتقاء الكلمات وإبراز اختلافهم عن الآخرين. حضرت مرة اجتماعًا لمجموعة تسعى لدعم الحركات الاجتماعية، دام الاجتماع أربع ساعات، قضى الحاضرون الأربع ساعات يحاولون الجواب عن سؤال "من نحن"! ورغم زخم لقاء "من نحن" هذا، إلاّ أنّ بقية اللقاءات التالية لم تحظ بنفس الاهتمام مع أنّ الاجتماعات معدّة للعمل الميداني... طبعًا انحلّت المجموعة بنفسها ولم تكمل حتى عامها الأوّل.
عن مُحتسي القهوة
وعلى عكس مجموعة " المفاهيم والنظريات" هناك مجموعة "السياسوية اليومية" وهم في الأغلب متحزبون يتفاعلون آنيًا مع كل الأخبار والمستجدات الوطنية والعالمية، تتلوّن حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بألوان أحزابهم وصور قياداتهم مع كلّ استحقاق انتخابي ويرجعون إلى أسطوانة الديمقراطية الشكليّة والمزيفة كلّما خسروا، تُعرفُ هذه الفئة عمومًا باحتسائها للقهوة وبحٌبّها لمحمود درويش ولينا شماميان والراحلة ريم بنّا. لا يأبهون كثيرًا بالنظريات ومعاركها. فلهم معاركهم الخاصة داخل دكاكينهم الحزبية وجبهاتهم. بينهم وبين الإسلاميين عمومًا كره متبادل وبينهم وبين شباب الإسلاميين عداءٌ شديد. شتاء يلبسون الكوفية وصيفًا يلبسون قمصان عليها صُور تشي غيفارا. لهم طاقةٌ لا تنضبُ: فهُم وقود كل التحركات والاحتجاجات الطّلابيّة تجدهم في الصفوف الأولى كلّما تعلّق الأمر بفلسطين. تتميّز علاقاتهم العاطفية بالتعقيد عمومًا وهناك دائمًا ذكوري في المجموعة يعتقد بأنّه حُلم لكل رفيقاته ويكون غزله عبارة عن مُقتطفات لقباني أو ترجمات لنيرودا هذا إن لم تجُد عليه قريحته الخاصة بعذب الكلام.
بداية، راقبتُ هذا العالم بتوّجس - وهو أمر طبيعي لابنة إسلاميين، فكانت كلمة اليسار في بيتنا مُقترنة بالانحلال الأخلاقي والتفسخ الهويّاتي.
رغم حديثهم الدائم عن ضرورة الالتحام بالطبقات المُفقرة والفئات الشعبية، فهُم أناس منغلقون على أنفسهم، بعيدون عن مشاغل الناس اليومية، يتبارزون بالنظريات فيما بينهم مُحاولين إثبات من فيهم الفرقة الناجية.
ظاهرة "الرفيقة المُزّة”: التي تعتقد بأنّها حُلم وطموح لكل رفاقها ولا تتوانى في استعمال مؤهلاتها الطبيعية لتعزيز شبكة "داعميها" أو مُعجبيها خاصة إذا كانت ترنو لتموقع مُعيّن، فُتُغدق علينا بصورها، ولكنها لا تنسى أن تضع مع الصورة بيتًا شعريًا.
طبعًا لا مانع في بعض "الاجتماعات" الليلية في الحانات لمُناقشة سُبل إسقاط الإمبريالية! وماذا سيضر لو أنّ زوجته اهتمت بالأبناء قليلًا؟ أو انتظرت لساعات طلته البهيّة؟!
عن الرفيقة "ميم"
هُناك أيضا ظاهرة "الرفيقة المُزّة"، وعادة ما نجدها في المجموعتين، مثلها مثل الرفيق "ذالّ". تعتقد الرفيقة "ميم" بأنّها حُلم وطموح لكل رفاقها ولا تتوانى في استعمال مؤهلاتها الطبيعية لتعزيز شبكة "داعميها" أو مُعجبيها خاصة إذا كانت ترنو لتموقع مُعيّن، فُتُغدق علينا بصورها وسلفياتها ولكنها لا تنسى أن تضع مع الصورة بيتًا شعريًا أو مقولة فلسفية حتى لا نهتم بشكلها ونُدرك عقلها. تلجأ أحيانًا الرفيقة إلى الأكسسوارات عوضًا عن الأشعار والمقولات فتكون الصورة على سبيل المثال عبارة على عيني الرفيقة مع قبعة عليها نجمة الشيوعية أو قلادة المطرقة والمنجل مع "ديكولتي"2 الفستان الأحمر، طبعا أحمرُ الشيوعيّة!
عن يسار الكافيار
هُناك كذلك ما يُعرف بيسار الكافيار في تونس، وهُم عادة من سكان الأحياء "الراقية" وينحدرون من عائلات ميسورة و"عريقة". تتلخص اليسارية بالنسبة لهم في الدفاع عن الحُريات الفردية والعداء للإسلاميين والقوميين. هُم من قامات المجتمع المدني. طبعا ليسوا عربًا ولا يتقنون العربيّة ويعتبرونها لغة غزاة، وكأمازيغ أقحاح يتحدثون الفرنسية ويُطّعمونها أحيانا بكلمات من "اللغة التونسية". يحرصون بالتّأكيد على الحفاظ على العادات والتقاليد التونسية مثل " الأفتر وورك"3 في "اليوكا"4. كما تتلخص أهم قضاياهم في حقوق النساء وحقوق الأقليّات. ولكنك لن تسمع لهم صوتًا إبّان الاحتجاجات الاجتماعية إلا تنديدًا بـ "عُنف" المُتظاهرين وتنبيها من انهيار الدّولة!
عن علاقة الرفاق بالنّسوية
تتلخص هذه العلاقة في رأيي فيما قاله لي رفيق من بلد شقيق: "نحن نعيش في مجتمعات ذكوريّة أبويّة، ونحن كرجال وبغض النظر عن انتمائنا الإيديولوجي والسياسي نستفيد من هذا الوضع، علينا أن نعترف بهذا." صدق والله! كُلكم مستفيدون كلّ حسب تقدميته! فيقضي الواحد منهم يومه "يُناضل" من أجل العدالة الاجتماعية ثمّ يرجع بيته مُنهكًا غير آبه لما عانته رفيقة حياته أو أمه خلال يومها حتى يتسنى له النضال بـأريحية، فينتهي هو يومه حين تطأ قدماه البيت وتبدأ هي نوبتها المسائية. طبعًا لا مانع في بعض "الاجتماعات" الليلية في الحانات لمُناقشة سُبل إسقاط الإمبريالية! وماذا سيضر لو أنّ زوجته اهتمت بالأبناء قليلًا؟ أو انتظرت لساعات طلته البهيّة؟! ألم يقل درويش "انتظرها" فلتنتظره هي! بإمكانها استغلال سويعات الانتظار هذه في فتح آفاقها والاطلاع على كتاب " رأس المال" حتى تتجذر هي أيضًا! ويحها ما أجحدها وهي تتذمر من طيشه فقد ضحّى بحُريّته الجنسية من أجلها ولم يضع "لايكًا" على فُستان "ميم" الأحمر مُراعاة لها حتى أنّه تصالح مع منظومة الزواج الرجعية وتزوجها!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...