مظاهرات "السترات الصفراء" التي خرجت في فرنسا قبل شهر تقريباً، تلقفها بعض الصحفيين ذوي الأقلام السيابة. فحشدوا الكلمات والعبارات للدفاع عن العاصمة باريس. وقد عبّروا عن حزنهم وألمهم الكبير لرؤيتها "تحترق". عبارة تحمل في طياتها معانٍ في غير محلها خاصة وأن وصفهم للمتظاهرين لا يليق بالمدافعين عن حقوقهم. حتى أن أحد هؤلاء الكتاب الصحفيين اعتبر الجنرال النازي، الحاكم العسكري لهذه المدينة، أرأف حالاً عليها من أبنائها. كما أورد أحدهم أن هذه الحركة كما حركة أيار/مايو 68 التي لم تأتِ بشيء سوى الخراب. فكيف يمكن يُكتب مقال، وإن كان مقال رأي، دون أن يتضمن دقة في المعلومات. فهذا ما اعتبره ازدراء بعقول القراء وتزويراً للتاريخ الذي سيقرأه أبناؤنا. لذلك حرصت أن أوضح ما يلي: بداية، الجنرال الألماني ديتريش فون شولتيتز، والذي عيّن حاكماً عسكرياً لـ "باريس الكبرى" في السابع من شهر آب/ أغسطس عام 1944، لم يحرقها كما أمره قائده أدولف هيتلر، فهذه رواية مثيرة للجدل، ولا توجد إثباتات تاريخية تؤكد صحتها. فمن المؤرخين من يقول إن فون شولتيتز لم يتلق هذا الأمر وإنما أراد من هذه الرواية التي ابتدعها تبييض صفحته وإظهار نفسه كجندي "جيّد" رغم أنه نازي. هذه الرواية نشرها في صحيفة "لوفيغارو" بعد خروجه من السجن عام 1947، وفي مذكراته "من سيباستوبول إلى باريس: جندي من بين الجنود" التي نشرها عام 1950. كما أن حاكم باريس العسكري، فون شولتيتز، لم يكن قادراً على التنفيذ لقلة عدد الجنود الموجودين تحت أمرته ولنقص في الذخائر والمتفجرات، كما يؤكد المؤرخ الفرنسي ومدير البحث في المركز الوطني للبحث العلمي فابريس فيرجيلي. كما أن القنصل العام السويدي، راوول نوردلينغ، الذي قام بالتفاوض مع فون شولتيتز والمقاومة الفرنسية لإرساء هدنة في باريس لم يأت على ذكر هذا الأمر بإحراق باريس. بل، خلال مفاوضاته، أقنع نوردلينغ الألمان بأن أي تصرف إنساني يصدر عنهم سوف يسجل لصالحهم عند انتهاء الحرب. هذه الهدنة وافق عليها فون شولتيتز في التاسع عشر من الشهر نفسه. وفي الخامس والعشرين من ذلك الشهر، أي بعد ستة أيام، استسلم الجنرال النازي ورفاقه ونُقلوا إلى معتقل في لندن. الجنرال الألماني الذي دمر سيباستوبول في القرم وروتردام الهولندية، نُقل ورفاقه النازيين إلى بريطانيا، وفي سجنهم شمال لندن في ترانت بارك، سجلت الاستخبارات البريطانية محادثاتهم دون علمهم. حيث قال في بعضها فون شولتيتز إنه لم يخالف أوامر قائده معترفاً بمشاركته بعملية إبادة جماعية واحدة. وقد كشفت الاستخبارات البريطانية عن هذه التسجيلات. المؤرخ الألماني سونكي نايتزل ومواطنه عالم الاجتماع هارالد ويلزير، في كتابهما "جنود، معارك وقتل وموت: تسجيلات جنود ألمان" نقلا الآلاف من هذه الأحاديث المسجلة. ونشرت وسائل إعلام بريطانية مقتطفات منها. وسأكتفي بهذا القدر من المعلومات، وذلك لأنني لا أريد الإطالة في هذه النقطة.
من هم المتظاهرون أصحاب السترات الصفراء؟
أما المقارنة بين رأفة الجنرال النازي بباريس وتعاطي المتظاهرين مع باريس فهي في غير مكانها. هؤلاء المتظاهرون ليسوا كما تم وصفهم بـ "الحرّاقين". فلا يجب المزج بين هاتين الفئتين، لكلّ منهما قضيتها وقصتها. المتظاهرون "أصحاب السترات الصفراء"، هم أناس يدافعون عن حقوقهم. لا يطالبون سوى بتصحيح أوضاعهم بعدما اثقلت كاهلهم الضرائب والاقتطاعات في حقوقهم الاجتماعية. هؤلاء هم بغالبيتهم أبناء المناطق والريف. إنهم اليوم يدفعون الضرائب عن أصحاب الأموال والثروات الذين يدفنون أموالهم في الملاذات الضريبية، وفوق كل ذلك خرجت لهم الحكومة الحالية والبرلمان الذي يسيطر عليه الحزب الحاكم بقانون يلغي الضريبة على الثروة التي لا تطال سوى الأثرياء. فكيف يمكن أن يقبل أي فرد بضريبة إضافية سميت ضريبة الكربون دون ان تقدم الحكومة مشروعاً منسجماً مع ما وعدت به للخروج من الوقود الذي يزيد من نسبة انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري؟ هذه الضريبة زادت من أسعار الوقود. ومع ضعف القدرة الشرائية، لم يعد بمقدورهم تأمين مصاريف الوقود للتنقل إلى مراكز أعمالهم، خاصة وأن وسائل النقل المشترك ليست متوفرة لهم كما هي الحال في المدن الكبيرة. ناهيك عن أن رواتبهم لا تكفيهم سوى أيام معدودة. وفقًا للإحصائيات الرسمية فإن 12٪ من الفرنسيين يعيشون تحت خط الفقر، وقد وصل عددهم إلى 8.8 مليون شخص. هؤلاء المتظاهرون، هم نساء ورجال متقاعدون، ومزارعون وموظفون في القطاعين العام والخاص، وأصحاب مؤسسات صغيرة، وانضم إليهم الطلاب. مظاهراتهم التي انتشرت في كافة المناطق الفرنسية لم تكن عنيفة على الإطلاق. ولم يظهر أي عمل تخريبي إلا عند تواجد "المخربين" الذين كانوا يغطون وجوههم هذه المرة وككل مرة ظهرت فيها مظاهرة مطلبية. وكي أكون أكثر دقة، فإن حالة الفوضى التي زرعها "المخربون" ساهمت، في مشاركة قلة من المتظاهرين السلميين في عمليات العنف، ونجد تفسيراً لذلك في علم النفس الجماعي. وخير دليل على ذلك التحقيقات التي قامت بها الشرطة بعدما أوقفت عدداً منهم، واطلقت سراحهم فيما بعد. أما فيما يتعلق بـ"المخربين" الذين كانوا يشعلون الحرائق ويكسرون واجهات المحلات، فهم مجموعات مختلفة الانتماءات والأهداف. من بينهم، وفق وسائل الإعلام المحلية، مناصرون لليمين المتطرف (أي انهم عنصريون وفاشيون ونازيون ويرفضون "الغريب"، هدفهم تخريب وتدمير مؤسسات الدولة الفرنسية اليوم). وقد يكون من بينهم ايضاً، أولئك الشبان الذين يعيشون أزمة اجتماعية حقيقية داخل الأحياء الفقيرة، أزمة عمرها سنوات ولم يعرف المسؤولون الفرنسيون بعد كيفية حلها. حتى اليوم، المعلومات شحيحة جداً عن حقيقية هؤلاء "المخربين" الذين خرجوا إلى الشوارع مع السترات الصفراء، ولن نملك المعلومات الصحيحة طالما لم يُشكف النقاب بعد عن التحقيقات التي تقوم بها الشرطة مع الذين تم استدعاؤهم. وفيما يتعلّق بعدم وجود قيادة لهذه السترات الصفراء، فهذا يعني، كما يقولون، رفضهم للقيادات السياسية والنقابية التقليدية على اختلافها بعد أن فقدوا ثقتهم بها. لكن هذه القيادات وعلى اختلاف انتماءاتها، أعلنت دعمها لهذه الحركة المطلبية. وقد اضطرت الحكومة للتراجع عن موقفها وعلّقت قراراتها التي تسببت بخروج المتظاهرين إلى الشوارع والطرقات، ومن ثم ألغاها الرئيس ماكرون للعام 2019. ورغم ذلك، فهم يؤكدون اليوم استمرارية حركتهم لتحقيق مطالبهم الأخرى ومن بينها تحسين رواتبهم خاصة للمتقاعدين وللذين يتقاضون الحد الأدنى للأجور، وزيادة الضرائب على شركات الإنترنت الكبيرة مثل غوغل وأمازون. وقد تضطر الحكومة للعودة والعمل بالضريبة على الثروة التي ستدر على الخزينة مليارات عديدة.وقد عبّر بعض الصحفيّين عن حزنهم وألمهم الكبير لرؤية "باريس تحترق". عبارة تحمل في طياتها معانٍ في غير محلها خاصة وأن وصفهم للمتظاهرين لا يليق بالمدافعين عن حقوقهم.
"أصحاب السترات الصفراء"، هم أناس يدافعون عن حقوقهم. لا يطالبون سوى بتصحيح أوضاعهم بعدما أثقلت كاهلهم الضرائب والاقتطاعات في حقوقهم الاجتماعية. هؤلاء هم بغالبيتهم أبناء المناطق والريف. إنهم اليوم يدفعون الضرائب عن أصحاب الأموال والثروات.
باريس هي فعلاً عاصمة الثقافة، لكنها أيضاً عاصمة الفرنسيين لقد دفعوا دماءهم مقابل بنائها وجعلها كما هي عليه اليوم. لم تُبن باريس بعصا سحرية، ولا بقدرة قادر. إنها ارادة فكر وإرادة الشعب. إنها تضحيات هذا الشعب.
حركة أيار/مايو 68 وما قدمته للفرنسيين
في ذلك المقال الذي أثار أسفي وغضبي، ورد أن حركة أيار/مايو 68 لم تأت بشيء. وهنا لا بد من القول إن فرنسا التي نعرفها اليوم، جزء منها هو نتاج تلك الحركة التي بدأت طلابية ثم توسعت لتشمل العمال وجميع فئات المجتمع الفرنسي. تلك الحركة التي جاءت متأثرة بالمناخ السياسي السائد عالمياً من ربيع براغ إلى رفض حرب فيتنام ومقتل مارتن لوثر كينغ لم تحدث فقط في فرنسا وإنما في كافة العواصم والمدن الأوروبية. هذه الحركة الفرنسية انطلقت في الثاني والعشرين من آذار/مارس من العام 1968، بعد أن قرر 142 طالباً احتلال جامعة نانتير استنكاراً لتوقيف رفاق لهم قاموا بمظاهرة مناهضة لحرب فيتنام. وهكذا، انطلقت الشعلة لتفتح الطريق أمام تحديث المجتمع الفرنسي. لقد أتت بحقوق وضمانات اجتماعية أوسع من تلك الموجودة، وثبتت النقابات العمالية والطلابية داخل المؤسسات. كما كسرت القيود التي كانت تطوق رقاب النساء والعمال والأجانب والسود والعرب. حركة أيار/مايو 68 فيها ظهر دانيال كون بنديت كقيادي طلابي ولم تكن لديه تجربة سياسية سابقة. لقد كان طالباً جامعياً رافضاً للسياسات المفروضة في تلك الفترة. أما جان بول سارتر، الذي دعم هذه الحركة، لم يكن يحتاج إليها ليحقق نفسه كمفكر. ولو كان حياً اليوم، لخرج كما فعل في 68 ليعلن دعمه لحركة السترات الصفراء وليثير مرة جديدة المعاناة التي يعيشها هؤلاء المتظاهرون.باريس عاصمة الثقافة، لكن...
ختاماً، باريس هي فعلاً عاصمة الثقافة، لكنها أيضاً عاصمة الفرنسيين لقد دفعوا دماءهم مقابل بنائها وجعلها كما هي عليه اليوم. لم تُبن باريس بعصا سحرية، ولا بقدرة قادر. إنها ارادة فكر وإرادة الشعب. إنها تضحيات هذا الشعب. عاصمة الثقافة اليوم، اعتبرت في أحد الأيام فيكتور هوغو عدواً للشعب ولم ينه رائعته "البؤساء" إلا في منفاه. عاصمة الثقافة، استهزأت بجان جاك روسو ولاحقته قانونياً بتهمة طرح أفكار فاحشة، فاضطر للهروب سنوات عدة. عاصمة الثقافة، سجنت فولتير مرتين في سجن الباستيل ونفته إلى انكلترا. عاصمة الثقافة، اتهمت إيميل زولا بالتلذذ بالانغماس بالأوساخ، والقدح والتشهير فهرب إلى لندن بعد صدور حكم بسجنه. عاصمة الثقافة اتهمت ألبير كامو الداعم لاستقلال الجزائر، بموالاته للاحتلال الفرنسي لها. باريس عاصمة الجمال والثقافة اليوم هي التي بناها أبناؤها مع إيمانهم بالمساواة والأخوة وبحرية التعبير والتفكير والحركة والتظاهر ورفض الانصياع لسياسات مجحفة بحقهم، والتساوي في الحصول على الخدمات التي غالبية المستفيدين منها هم أبناء المدن الكبيرة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...